شعار قسم مدونات

أن توهب لك حياة أخرى!

blogs - baby newborn
قال الطبيب: الولادة الطبيعية غير ممكنة، ستجرى لزوجتك جراحة قيصرية! طلب عددا من الفحوصات والتحاليل، وفي صباح اليوم الموعود اتجهنا إلى المشفى، وبعد وصولنا بقليل، دخلت زوجتي تلك الحجرة الكئيبة المخيفة الرهيبة: غرفة العمليات.

تمر الدقائق بطيئة وئيدة سمجة، يكاد القلق يفتك بي، الآن زوجتي وابني- أغلى من لدي في الوجود-حياتهما تحت رحمة مبضع جراح لا أعرفه ولم أقابله في حياتي قط! تمتلئ حياتنا بأعاجيب لا ننتبه إليها إلا في مثل تلك المواقف، طال الانتظار، وازداد قلقي وتوتري، انشغلت بالذكر والدعاء عسى الله أن يلطف بهما وبي، وبالطبيب أيضا، كلنا تحت رحمة الله وحده.

استبد بي الخوف والقلق واللهفة والاشتياق حتى أنهكت قواي، ما عدت أحتمل المزيد، طال الوقت أكثر من المعتاد بكثير، تواترت كل التصورات الخبيثة والأفكار الرهيبة على رأسي، رغم أنه طفلي الرابع، لم تختلف مشاعري عن المرة الأولى في شيء، كلا! هذه المرة أشد عنفا. حياة جديدة على وشك البدء، إنسان آخر ينضم إلى ست بلايين سبقوه إلى هذه الدنيا وما زالوا ساكنيها، وبلايين أكثر بكثير تحت التراب، تاريخ جديد سيكتب، أو تاريخ قديم تعاد صياغته، أوليس التاريخ هو قصة حياة هذا المخلوق فوق هذا الكوكب؟ بدأ التاريخ مع نزول آدم على الأرض، أو ربما قبل ذلك، يوم قال ربنا لملائكته: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً".

يبدو الطفل المسكين منهكا كمن أتى من سفر طويل، لا يوجد أطول من هذا السفر ولا أكثر مشقة، سفر عبر العوالم والأزمان، مسافر أتى من اللامكان، مسافر عبر الحياة

ترى كيف ولدت أمنا حواء أول أطفالها؟ كيف تعاملت مع حملها الأول؟ وكيف استقبلت آلام المخاض؟ كيف تصرف آدم؟ هل قام هو بمساعدتها؟ هل انطلق في البراري يبحث لها عما يخفف ألمها؟ كيف صنعا وقد كانا بمفردهما فوق الأرض كلها؟ هل أنزل الله ملكا ليعلمهما كيف يصنعان؟ المؤكد أن الله لم يتخل عنه، لكني أدرك الآن كيف أحس آدم، أدرك إحساسه بالعجز القاتل والقلق الهائل، والخوف والرهبة الممتزجان بالأمل، لا بد أن أمنا قد عانت آلاما رهيبة، لا بد أنها صرخت صرخة تردد صداها في ذلك الفضاء الهائل وفي البراري القاحلة الواسعة، صرخة ارتعدت من هولها الوحوش، وانطلقت آلاف الأسراب من الطيور في الأجواء فزعة، أهو قابيل؟ أم هل كانت بنتا؟ ما اسمها؟ لا بد أنها كانت خارقة الجمال! كل ذلك لا يهم، لكن هذا المخلوق الصغير قد ضمن حياتنا على الأرض حتى اليوم، وحقق الغاية من خلق الحياة، الآن مخلوق جديد من نسل آدم يوشك على القدوم، هو بدوره يقوم بنفس دور سلفه الأول وجده الأكبر منذ مئات آلاف السنين، يضمن استمرار الحياة، ويحقق غاية الخلق!

ما أعجب تلك الحياة! وما أبدع هذا المخلوق! وما أعظم هذا الخالق! كيف يكفر به بعض الناس وهو أصل وجودهم وغايته؟ كيف نجرؤ على معصيته؟ كيف نغفل عنه أحيانا، وكيف يقبلنا مرة أخرى؟ طرد أبانا من الجنة لما عصاه مرة واحدة، فلم يقبلنا إن نحن عدنا كلما عدنا؟ لم يغفر ويعفو وهو القادر على الطرد والعقاب والعذاب؟ حتى لما أراد آدم أن يعود تائبا نادما لكنه لم يعرف كيف، علمه كيف يتوب إليه! أوليست رحمته وسعت كل شيء؟ ومع آخر حبة صبر احتفظ بها في داخلي، جاء البشير، الأم وطفلها خرجا سالمين، تنفست الصعداء، وسجدت لله شكرا، بينما تهنأني العاملات والممرضات وتطلبن "حلاوة" المولود!

سارعت رفيقات زوجتي إلى الداخل للاطمئنان على الأم ووليدها، بعد قليل حانت اللحظة التي طالما انتظرتها، أقبلت إحداهن تحمل هذا المخلوق الصغير الضعيف إلي، وألقيت أول نظرة عليه، يا الله! ما أروعه! ما أحسن صورته! وما أدق صنعه! وما أتقن خلقه! وضعته بين ذراعي، تناولته برفق وحنان ورهبة وعناية فائقة كأني أخاف أن ينكسر، لامست بشرته الغضة الناعمة يكسوها طبقة قشرية خارجية كأنه خارج للتو من مصنع الآدميين، رفعته لأطبع قبلة على جبينه، فاشتممت منه تلك الرائحة المميزة، رائحة الفطرة، كما رائحة الأرض البكر، لم تمسها يد بشري، ما أزكاها رائحة!

الآن أعرف مشاعر آدم حين تلقى وليده الأول بين ذراعيه، الآن أدرك هذا المزيج العجيب من المشاعر الجارفة من الحنو والشفقة والحب والخوف والرهبة والقلق والسعادة والأمل، كيف عصفت بكيانه مشاعر ولدت في داخله تلك اللحظة تكفي لمليارات البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل بشري ورثت جيناته جزءا صغيرا منها ليكفي نسله! 

أتخيل كل مخلوقات الله، كل الحيوانات والطيور والزواحف، كل الملائكة والجن والحور، بل النجوم والكواكب والأقمار والشموس تجمعت لتشهد تلك اللحظة، لترى كيف أحس آدم، وكيف استقبل وليده، لتعرف كيف يبدو هذا الخليفة الجديد الذي سخرت له ولنسله الأرض وما عليها، وربما قص بعضهم لمن لم يحضر فتقطع ندما. أتخيل آدم وقد سجد لربه طويلا كثيرا شكرا أن وهبه حياة أخرى، حياة الأبد، أوليس الولد امتدادا لحياة أبيه؟ تبدو الحياة هائلة الأفق حين ترزق بابن أو بنت، وكأن حياتك يكتب لها الخلود حتى بعد موتك، أوليس ربنا قد قطع عمل ابن آدم بعد موته إلا من ثلاث أحدها ولد صالح؟ أوليس قد ضمن الجنة لمن أحسن تربية فتاة؟

بدأت أهمس في أذنيه بعبارات الأذان كما علمنا سيد الخلق، مع أول تكبيرة رأيت تورد خديه، وأحسست انتظام أنفاسه، الآن هدأ روعه وسكن قلبه وانبسطت سريرته
بدأت أهمس في أذنيه بعبارات الأذان كما علمنا سيد الخلق، مع أول تكبيرة رأيت تورد خديه، وأحسست انتظام أنفاسه، الآن هدأ روعه وسكن قلبه وانبسطت سريرته
 

نبهتني إحداهن أن علي أن أعيد الطفل إلى أمه كي يتلقى رضعته الأولى، كان مستكينا بين ذراعي، يبدو المسكين منهكا كمن أتى من سفر طويل، لا يوجد أطول من هذا السفر ولا أكثر مشقة، سفر عبر العوالم والأزمان، مسافر أتى من اللامكان، مسافر عبر الحياة، يبدو الصغير قلقا خائفا مترقبا، قد أغمض عينيه كأنه يخشى أن يرى ما ينتظره في هذا العالم الغريب الرهيب، أكاد أحس بضربات قلبه الضعيف المتسارعة وأنفاسه المتلاحقة التي تسللت إلى صدره لتوها وما زالت تؤلمه، وأصوات وضجيج يكاد يصم أذنيه ويفزعه، لعله يشكو إلى خالقه: لمن تركتني ؟ لماذا يا رب أتيت بي إلى هذا العالم الخانق الزاعق المخيف؟

رفعته إلى شفتي، وبدأت أهمس في أذنيه بعبارات الأذان كما علمنا سيد الخلق، مع أول تكبيرة رأيت تورد خديه، وأحسست انتظام أنفاسه، الآن هدأ روعه وسكن قلبه وانبسطت سريرته، الآن أدرك أن صلة تربط بين عالمه الذي جاء منه وهذا العالم، الآن علم أن خالقة لم يغفل عنه ولم يقله، بل أرسل إليه من ينتظره ويرعاه، تماما كمسافر إلى بلد غريب لا تعرف لغته ولا أحدا من أهله ولا مقصدا تأوي إليه، تشعر بالضياع والغربة، وفي حيرتك تلك، تسمع من يهمس في أذنك باسمك، ومن يخاطبك بلغتك، ومن يؤمن لك مبيتك. ألقيت الأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى، ثم ردته إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن، لترضعه من حنانها لبنا، ومن صدرها حياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.