شعار قسم مدونات

بنغازي.. بلادٌ لم تعد كبلادي!

blogs بنغازي
نيسان ٢٠١٥م – بنغازي

كان يوم من أيام نيسان الرتيبة، موغلٌ في ضبابيَّتِه وشحوبه، يطلُّ علينا مرتديًا رداءَ حزنه ككلّ الأيّام، تخاله لشدّة بؤسه لا يبلى بطول اللّيالي، ولا بتقلبات الدهر، ماضٍ معنا كشاعر الملك ونديمه.

انعطفت بنا السيارة -صباحا- تجاه "وسط البلاد"، وعلى الرغم من مشكلتي الدائمة في حفظ الأماكن والطرق، كانت بوصلة قلبي لا تخطئ المكان، كيف! وروحي كأيِّ بنغازيّ لا تفتأ تحنُّ لها حتى في خرابها الأخير، وصلنا لشارع جمال عبد الناصر وكانَ التّرحاب بنا لا يختلف عن كل مناطق بنغازي، حيث استقبلنا بوابلٍ من الرّصاص العشوائي، لم يكن بيننا وبينَ الحاجز الذي يُدخِل إلى المحور سوى بضع سيارات وجنود؛ ورغمَ سطوةِ الموتِ على هذه الأماكن لكنَّها ما تزال تحتفظ بعبق حياةٍ عتيق يعرفه جيّدًا أهل البلاد بأزقته الضيّقة، ومبانيه القديمة، ومحلاته الغارقة في بساطتها والمكتظة بضحكات العابرين.

 

بتُّ ليلتي هناك وقد مضت ثقيلةً كمرور شاحنةٍ على روحي، جلستُ على أريكةٍ خضراءَ غيرَ مريحة، يخالط الهواء شجنٌ ما، ونشوةُ حزنٍ منحت روحي خفّةً مؤقتة أسلتني ليلتها، كانت الأرض تهتز لصوت القذائف المتتابعة، ويكاد قلبي يُقتلع من مكانه في كل مرة؛ تلصصت عبر فتحات النافذة: بالأسفل دبابتان، تخرج منها كرات نارٍ إلى حيث لا أدري، ويتسلل لأنفي شيء من الغبار ورائحة الحرب النّتنة.

اليوم أعبر أحياءها الباردة الخالية من حياتها، أعبرها ورغم تجلدي أتوجّع شوقا، هربت منها يوما طلبا لجذوة حياة تتقد، فإذ بي أعود إليها موقنة بأن جذوتنا خبت!

حسنًا؛ أنا الآن في البقية الباقية من "وسط البلاد"، أشيح بنظري صوبَ الجهة الأخرى، لا شيء سوى الظلام والموت والقصف المتتابع، ولكم أن تعلموا أنَّ ليسَ ثمّة بنغَازيٌّ لم تتعلّق روحُه بتلكَ الجهةِ المعتمة الّتي سحقتها الحربُ ببطشها. كان الموت يتشكل أمامي بأكثر من صورة، في أكثر من جهة، وأكثر من وسيلة، وليس كافيا البتّة أن تتنفس حتى تكونَ على قيد الحياة! أذكر عبارة لفاروق جويدة يقول: "الموت الحقيقي أن يفقد الإنسان القدرة على أن يصرخ.. الموت الحقيقي أن يتساوى صمته مع كلامه"، وأنا فقدتُ صوتي والكثير من حاجياتي، وبقي فكري يقاوم وهو أخرس.

أيار ٢٠١٨م – طرابلس

مرّت سنوات الحرب، وما تزال هذه القطعة من الأرض تتوغل في اغترابها ونأيها، -وهيَ بالجوار تفصلنا عنها خيبات كثيرة!-، لم يعبرْ أحدٌ هذه الشّوارع والأزقة ولم يلجمهُ حجمُ الدّمار، وأدرَك العطب الجلل الّذي حلَّ بروحه، كل شيء بدا أدهمَ لا يحمل في جوفه سوى الرصاص ومخلفات الحرب، وأطيافِ ذكرى لا أعلم -واللهِ- أهي تسلينا أم تبكينا!؟، لا أدري لِمَ وأنا على هيئتي هذه تطوف بي الذكرى لتلك الأماكن، وأكاد أتنفس هواءها العبِق وتذوب في فمي طعمَ الحلوى، وأسمع خطواتي على الكورنيش أشاكس النوارس، وأقفز على حجارة الشاطئ حتى تبتل بعض ثيابي، وأعود أدراجي ونفسي لا تطيق فِراق المكان؛ شيءٌ منَ الحنين الجارف يشدّني إليها، وقد كنتُ آتيها دون أن أحمل ثقلا ورائي، ولا أتطلَّع إلى خوفٍ مرتَقَبٍ أمامي، واليوم جثم على صدورنا خطبها الجلل، وأثقلت أرواحَنا بركامها!

ليت شعري كيف شوهتنا الحرب، وكم أكلت من أكبادنا ورمتنا بسمّها السّحيق، ولكم تساقينا فيها كؤسَ ودٍّ من كرمة حبٍّ معتّقة في أزقتها، وصارت اليوم سُمًّا يعيش في دمنا، واستحال الودُّ ظلما وخذلانا. آهٍ! وكم من ابتسامات علقناها على جدرانها وغرسناها في أرضها.. وحصدنا بها أرواحًا ما عادت لنا الحياة بدونهم حياة، اليومَ استحالت أماكنها البهيّة خرابا يجثم على صدورنا، ووجعًا يكوي الفؤادَ قد جفّت مدامعنا دونه، وما عادتْ أماكننا البهيّة بهيّة.

undefined

لكم من السنوات مضت، نختبئ خلف شواغلنا الكثيرة، نبتسم للغرباء، نعبر شوارعَ لا ننتمي إليها، نتبادل نكاتا باردة ونضحك، نعدد أسماء شوارعنا العتيقة، نتذكر النادر من لهجتنا البنغازية ثم نأوي إلى بيوتنا، نخطط ليوم آخر يمتلئ بشواغله التي لا تنتهي، ولكن في لحظة ما غير مناسبة، وبطريقة مفاجئة ينكأ الجرح نفسه وتنتفض الذاكرة، ويغطي العينَ غبار الحنين. اليوم أعبر أحياءها الباردة الخالية من حياتها، أعبرها ورغم تجلدي أتوجّع شوقا، هربت منها يوما طلبا لجذوة حياة تتقد، فإذ بي أعود إليها موقنة بأن جذوتنا خبت!

وها أنا كالغراب الذي حاول أن يمشي مشية الطاووس، فلا هو الذي أدركها ولا هو الذي استطاع المشي مشيته الأولى، لا أنا التي ظفرت بالحياة ولا أنا التي فقدتها، معلقة بينَ بين، ككل الاحتمالات التي لا ينوي اليقينُ أن يقطعها. "إن الغربة ليست ظواهر هجرة أو بعد أو فراق، فليس كل من يهاجر غريبا، وليس كل غريب من ودع أرضا أو وطنا، لأننا قد نصبح غرباء ونحن لم نودع أوطاننا، وقد نهاجر وإن كنّا مقيمين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.