لقد اهتم المسلمون قديما بالنقد وأتاحوا للعقل المسلم حرية البحث عن المعلومة وسبر أغوارها والتحققق من صحتها، وتأسست من أجل ذلك علوم مختلفة في كافة المجالات، فنجد أن "علم الإيمان" أثمر علما خاصا اسمه "علم الكلام" الذي اهتم بالإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى في ذلك الوقت، واستطاع أن يُغَيِّبَ "علم الإيمان" كعلم وأن يحل محله لفترة طويلة من الزمن حتى بدأ يتعافى ويعود من جديد في أواخر القرن العشرين، ونجد كذلك "علم الحديث" أثمر علما جديدا اسمه "علم الجرح والتعديل" الذي يقوم على البحث عن الناقل وصحة المنقول عنه ومدى ضبطه، وبرزت كذلك علوم أخرى مثل "علم الجدل والمناظرة" الذي انبثق عن "علوم المنطق والفلسفة" وغيرها من العلوم الحية التي استفادة منها الأمة وخدمت الفكر الإسلامي فترة من الزمن.
ومن هذا المنطلق يتبين لنا مدى الحراك الفكري والحياة العلمية التي تمتعت بها الأمة قديما؛ لكن السؤال الذي يطرح نفسه بنفسه هل ستشهد الأمة علما جديدا يجيب إجابات واضحة ومقنعة عن كم التساؤلات الفكرية التي تدور في أذهان الكثير سواء التي ظهرت حديثا مع تقدم العلوم الطبيعية، أو تلك التي لا زالت تتردد منذ فترة ولم تجد إجابة واضحة إلى الآن، وهذا ما ستجيب عنه الأيام؛ لكن الذي يعنينا هنا هو البحث عن تلك الأخطاء الشائعة التي تصاحب عمليات النقد التي تأسست على غير منهجية واضحة أو قواعد علمية راسخة فأثمرت الازدواجية في الطرح والتناقض في النتائج.
لا تحكم من خلال الأشكال والمظاهر والشعارات واللافتات، ولا تتأثر بها مباشرة ولا تأخذك الحماسة الزائدة على اتباع كل ناعق، فكم من شعار كشف الوقت زيفه وكم من لافتة أثبتت الأيام زورها |
ومن هذه الأخطاء وعلى رأسها هو الخلل في فهم ماهية النقد والتركيز عند النقد على مكامن الخطأ ونقاط الضعف وجوانب العيب وأوجه القصور فقط، فترى البعض يتحسس تلك الجوانب ويركز عليها ويتعمد الخوض فيها؛ فيجلد خصمه ويبالغ في ذمه ونسفه، ويتجاهل نقاط القوة عنده وأوجه الصواب، ويتناسى أن النقد هو التركيز على الإيجابيات وتعزيزها وتنميتها، مع بيان السلبيات وتوضيح مآلاتها ونتائجها، يصاحب العمليتين مساعدة الخصم على اكتشاف نفسه ومعالجة أخطائه شخصا كان أو جماعة، وذلك هو النقد البناء الذي يؤتي أكله بإذن ربه.
لم يكن هذا هو الخلل الوحيد في طرق النقد الشائعة، بل هناك صور أخرى لا تقل خطورة عن سابقها، فكثيرا ما نستعجل في قرار أو حكم على شخص ما أو جماعة أو مؤسسة قبل التدقيق في المعلومات والحيثيات والمعطيات التي بين أيدينا، ثم يتبين لنا بعد الحكم أن المعطيات والحيثيات التي بنينا على ضوئها الرأي أو الحكم معطيات خاطئة وحيثيات باطلة، وبالتالي فإن النتيجة وبلا شك ستكون خاطئة بل وكارثية، وهذا يدعونا أولا للتنقيب والتحقيق في صحة المعلومة وصوابها قبل الحديث عنها أو الحكم عليها، ولقد عالج القرآن التسرع في الحكم قبل استيفاء المعلومة فقال تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".
قبل أن تحكم لا تحكم من خلال الأشكال والمظاهر والشعارات واللافتات، ولا تتأثر بها مباشرة ولا تأخذك الحماسة الزائدة على اتباع كل ناعق، فكم من شعار كشف الوقت زيفه وكم من لافتة أثبتت الأيام زورها، لذا كان لزاما عليك أن تغوص في العمق والأبعاد وكن حاضرا بعقلك لا بعاطفتك، فكثيرا ما نتأثر بالمظاهر ولا نكلف أنفسنا عناء البحث والتنقيب عن المضامين والنتائج؛ فنجد أنفسنا في نهاية المطاف ضحايا وهم قاتل أخذ من أوقاتنا وجهدنا الشيء الكثير.
قبل أن تحكم على كتاب من الكتب يجب أن تقرأه أولا وأن تعرف ماذا يريد من خلاله كاتبه، وأن تقارنه بكتابات المؤلف نفسه التي كتبها بعده، فكم من رأي قاله صاحبه في كتاب ثم عدل عنه في كتاب آخر لأسباب ربما تعود إلى تغير العرف أو اختلاف تصوره حول المسألة أو الضرورة أو اختلاف قوة الدليل، مع العلم أن العدول عن الرأي لرأي أصوب منه علامة نضج ودليل قوة، وبهذا تتضح عندك الصورة كاملة ويظهر لك المراد كما هو، ثم بعد ذلك قل رأيك المجرد في الكتاب بعيدا عن التأثيرات الجانبية والضغوطات الخارجية.
قبل أن تحكم على شخص هل سمعت منه مباشرة أم سمعت عنه، وهل قرأت له أم عنه، وماذا يضيرك لو سمعت منه وجهة نظره أو اطلعت عليها من مصدرها قبل أن تحكم عليها أو عليه ثم تقول رأيك الخاص فيها، وهكذا عالم الجماعات فقبل أن تحكم على فرقة أو حزب أو توجه أو تيار هل كلفت نفسك عناء الوصول إليهم والسماع منهم لا عنهم، أو الرجوع إلى أدبياتهم ومصادرهم ومؤسساتهم والتحقق من أقوالهم وآرائهم، ومثل ذلك عالم الأفكار فقبل أن تحكم على فكرة بالصواب أو الخطأ هل قرأت عنها كفكرة، ثم هل قرأت عن نقيضتها حتى تقارن بينهما وتخرج بوجهة نظر متكاملة، وهكذا عالم الفقه والأحكام فقبل أن تُصدر حكمك في مسألة هل درست أدلتها ومقاصدها أم اكتفيت بما وجدت عليه مجتمعك ومحيطك.
قبل أن تحكم لا تعمم حكمك على الجميع، وتجنب اللغة الفجة والرديئة فهناك فرق كبير بين النقد العلمي والتحليل الموضوعي وبين السب والشتم الذي قد يجيده الكثير ولهذا يقول الإمام المزني: "سمعني الشافعي يوما وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم، اكس ألفاظك أحسنها ولا تقل: كذاب ولكن قل: حديثه ليس بشيء" ولا بد أن تتعامل في نقدك مع الإنسان كإنسان بلا مدح يصل به حد التقديس ولا ذم يبلغ به حد الشيطنة، وفرِّق بين الفكرة وصاحب الفكرة فلست معنيا بسلوكه ولا بشكله، واحرص على أن يكون قصدك من النقد البِناء لا التشويه، وكن حريصا على خصمك كحرصك على نفسك حتى تعينه على نفسه وتساعده على التخلص من خطئه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.