شعار قسم مدونات

الكلمات.. رصاصات تغتال الأرواح قبل الأبدان!

مدونات - رجل حزين

هي ليست مجرد أصوات تخرج من الفم، أو حروف تُرسم على الورق، وإنما طاقات لا تنتهي، تبني وتدمر، تُسعد وتُحزن، تُحيي سبباً أو تُميت، فهي مُحركة بني آدم ومُحفزة طاقاتهم. بها تقوم حروب أو تُمنع، ويكون زواجاً أو طلاقاً، وبها عبادات ومعاملات، هي كالثور حجماً تخرج من الفم ولا يمكنها العودة حتى تفعل بالنفوس ما يؤديه معناها. في الوقت الذي تطورت فيه قدراتنا الدماغية على اختزال المعاني الكبيرة في كلمات أقل أصبحت لدينا مقدرة فريدة على التعبير عما يدور بخلدنا، وأسمعنا السهول والوديان ما لم تسمعه من قبل وتضخمت قواميسنا اللغوية حتى ناءت بحملها الذاكرة .لكن متي نتكلم؟ وهل الصمت أفضل أم الكلام؟ وهل نحن مؤاخذون بما نقول؟
    
كلنا يعرف أن للحديث شهوة تفوق في بعض الأحايين شهوتنا لأغلب حاجاتنا الإنسانية، وليس للجميع القدرة على كبح جماح رغباته، وهنا تكمن المشكلة الأزلية حين يُدلي كلٌ بدلوه غثاً كان أو سميناً عالماً كان أم مُتعالماً، فتختلط الأمور وتحير الأفهام وتنشأ مشكلات التواصل البشرية التي تتبعها النزاعات التي تُحدث شقاقاً نفسياً ومجتمعياً. العاقل من يؤثر الصمت إن لم يجد خيراً في كلامه، وقد قيل أن الجاهل لو صمت عن الحديث لما حدثت الخلافات. فمن الكلمات رصاصات تغتال الأرواح قبل الأبدان، تمنح سامعها اليأس وتقنطه في رحمة الله التي وسعت كل شيء، قد تستنزفه نفسياً حتى يغدو كريشة في مهب ريح الحياة العاصف فتتقاذفه أحداثها حتى تقضي عليه. ومنها طوق نجاة في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج، كالقشة التي يلجأ إليها الغريق مؤملاً نفسه بالحياة، فيغدو مقاتلاً جسوراً لأعتى قوى الطبيعة وهو أعزل وحيد لا يملك من أمر نفسه شيء.ومنذ قديم الأزل، قامت الحروب لأجل الكلمات التي قدسها الناس وبذلوا في سبيلها دماءهم، ففقدت الإنسانية بفقدهم مئات الملايين من العبقريات البشرية التي كانت لتجعل حضارتنا في بُعد آخر اليوم.

   

خفف عن نفسك ومن حولك آلام الحياة بالكلمات ولا تكن عبئاً على الإنسانية. في الوقت الذي لا تملك فيه نصرة الحق ولو بالكلمات، توقف عن مدح الباطل

أسألكم أن تسألوا أنفسكم، كم بقيت في نفوسكم كلمات من كلمات التشجيع والتحفيز منذ الطفولة فاتخذتموها منارات تهتدون بها حال سيركم بالحياة، وكم بقيت من رصاصات أصابكم بها جاهل لا يعرف قدر الكلمة وأثرها في النفوس فعانيتم منها ولا زلتم تعانون أثرها السيئ .كم من كلمة دفعتك دفعاً لإغماد سيفك في مواجهة الحياة والاستسلام لمجرياتها دون مقاومة تُذكر، وكم من كلمة جعلت منك كائناً أسطورياً لم تعرفة البشرية من قبل فسارت خلفك الظروف مذعنة لإرادتك التي لا تُقهر .
   
إن الصمت من صفات الحكماء والعظماء-وهم قلة-ولست أراه مذموماً إلا في موضع خذلان الحق وقت الحاجة إلى الكلام. وإن الكلام كالسكين، فاحرص حين تستخدمه أن تسأل نفسك أتنفع به أم تضر؟ وما أحوج الناس، في عهد الفتن الكبرى التي تعيشها البشرية، إلى من يشفي علاتها بالكلمات.
   
ولولا أني أخشي قمع الحريات -المقموعة طبيعةً- لطالبت بتوقيع أقسى العقوبة على من يتحدث دونما ضوابط مستجيباً بتلقائية لرغبته وشهوته للحديث، فتصدر عنه كلمات تُفرق ولا تُجمع، تهدم ولا تبني، تقضي على النفوس باليأس بلاُ من إحيائها بالأمل، تأمر بمنكر وتنهي عن معروف، تؤجج حروباً وتقضي على سلام، تُبرز القبيح وتُخفي الجميل، تدعوا للشر وتنهي عن الخير.
 
ولأن الكلمات تخرج من أفواهنا محملة بمشاعرنا ونياتنا التي تخفي على من نحدثهم، فثمة نموذج يسهل من خلاله معرفة معادن الناس، فالناس معادن منها غثُ وثمين، وما تطويه نفوسهم مما لا يتحدثون به . ففي الوقت الذي تختار فيه النحلة الرحيق فتهبط في جنات الأزهار، تطير الذبابة تختار العفن فتهبط على أكوام القاذورات. والناس على مثل ذلك، منهم من يختار جميل الكلمات ونفائسها فيمنحك حديثه الراحة والسكينة والأمل ويتركك كأنك عاينت الجنة، ومنهم من لا يصدر منه سوى بذيء الكلمات وسيئها ووضيعها يدعوا بها إلى الشر ويقطع طريق الخير، فيجذبك بكلماته نحو مشاعر سلبية تدمر نفسك كأنك عاينت جهنم في الدنيا، وعليك تقع مسئولية اختيار مع من تتكلم، وإلى من تستمع، ومن أي الفريقين تكون؟ 

   undefined

 

نهايةً، ما نحن سوي كائنات واعية تعبر عن وعيها بالكلمات، وما أرقانا حين نُحسن التواصل معاً لأجل خيرنا وخير البشرية، وما أجهلنا حين تسوء طويتنا في التعبير عن الكلمات أو حتى تفسيرها، فتنشب نزاعات ويكون الألم .
   
وإلي ذاتك الواعية أبث كلماتي
خفف عن نفسك ومن حولك آلام الحياة بالكلمات ولا تكن عبئاً على الإنسانية. في الوقت الذي لا تملك فيه نصرة الحق ولو بالكلمات، توقف عن مدح الباطل. قُل خيراً أو اصمت. امنح الناس أملا أو كف لسانك. ليكن حضورك خيراً، انزع فتيل الأزمات بين الناس وكن بلسماً تُداوي به الجروح. كف عن تدمير أهلك بكلماتك، أنت أولي الناس بزوجتك، هي لا تحتاج منك إلى كنوز قارون قدر حاجتها إلى الاحتواء، والكلمات لها مفعول السحر .
    

امنح الناس بكلماتك علماً وثقافة، ولا تنشر بها جهلاً وخرافات. اجعلها سبباً للُحمة المجتمع وليس لتفتيته وفرقته. واحذر عقاباً ينتظرك إذا كنت كالذبابة او استخدمت سكين الكلمات وقتلت نفوساً كانت لتكون أملاً للإنسانية. واعلم أنك مسئول عن آثار كلماته، فالذي يدعوا إلى الهدى له أجور من تبعه، والذي يدعوا إلى الضلال عليه آثام من تبعه. ولا تنس حين أخذ رسول الله -صلي الله عليه وسلم- بلسان معاذ وقال: كف عليك هذا. فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم. والسلام على من رقى بكلماته أعلى درجات الإنسانية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان