(3)
يتحسس "بيرسى" جسده الضئيل، ويتمالك نفسه، ويستكمل حديثه الذى يخشى أن يكون حديثه الأخير، فالمارد عنده الأمر العظيم قد يكون تافها، وقد يكون عنده الأمر التافه عظيما، وهذا هو المارد الذي يعرفه "بيرسي" جيدا:
(بيرسى): سيدي مارد البساتين العظيم.. نرفع إليكم رجائنا وأملنا أولا في استمرار رضاكم عنا وعن خدمتنا لكم، ثم ما نطلبه بعد ذلك يا سيدي العظيم أمر في غاية الأهمية والخطورة… ليس لنا أولا بل لكم أولا ولنا ثانيا… إننا وجدنا لنخدمكم وإن تأثرت معيشتنا سوف تتأثر خدمتكم بالضرورة.. ومن الضروري أن نقوى على تلك الخدمة العظيمة التي نتشرف بها ونعدها وبحق تاج الشرف فوق رؤوسنا ورؤوس أولادنا من بعدنا.. سيدي العظيم..
ويصمت "بيرسى" وهو ينظر الى وجه "كارشون" الذى يغلق ويفتح فيه عينيه المخيفتين، وكأن أذنيه لا تسمع له قولا، وهو لا يدرى أن المارد انشغل وعاد إليه فزعه من المشهد النادر والغريب والمهيب وإن كان أبطاله كجراد ميت، واستغرق المارد يفكر غير عابئ بالطبع بالذي قد قيل من قِبل كبير الأقزام، وهو يقول في نفسه:
(كارشون): إن هؤلاء الملاعين تجرأوا على فعلتين فعلاهما بالصدفة البحتة، ولكنهما اليوم صدفة، وربما لا تكون في الغد كذلك، فمنذ متى وهؤلاء الأراذل تجتمع لهم كلمة أو يلتحم لهم جسد ويتوحد لهم هدف؟!.. ومنذ متى وهؤلاء الأراذل تكون لهم مطالب عندي، هذا أمر إن ألفوه، لفقدت سيادتي التامة عليهم وإن لم أفقدها في الحقيقة.. فمجرد تجمهم وطلبهم لمطالب ينال من تلك السيادة التي يجب أن تكون تامة ومحكمة ومغلقة، وعلى أية حال فإن هذا المشهد هو الأول والأخير قطعا، ولن يتكرر وجوده مرة أخرى على سفح هذا الجبل الذى يضم كهفي وحصني.
ثم يتذكر المارد، كبير الأقزام وحديثه المقطوع، ويتظاهر بتجاهل ما كان سبق له قوله فيسأله من جديد: (كارشون): ماذا كنت تقول يا كبير الملاعين.. ذكرني بما كنت تقول دون إطالة ونفاق. يعيد كبير الأقزام حديثه عن تلك المطالب.. فيوقف لسانه عن الحديث "كارشون" بإشارة منه بسبابته لها معنى يفيد الصمت التام، فيتوقف كبير الأقزام عن الحديث وكأن الخرس قد فتك بلسانه.. ويسأله بحدة وسرعة:
يتأخر المارد العملاق أكثر من اللازم حتى يخرج فجأة كما دخل فجأة، ولكن خروجه كان غريبا، فالمارد العملاق خرج من كهفه ويحمل بنفسه بين ذراعيه العظيمتين أجولة كثيرة من القمح والشعير |
(كارشون): وما هي تلك المطالب يا كبير الملاعين؟.. التي هي وإن كانت لكم، إلا أنها تخدم عظمتي أنا وتخدم من أريده عليكم سيدا تحتي عظمتي لتحسنوا في خدمتي، انطق يا كبير الملاعين؟ وبسرعة.
يجيبه كبير الأقزام بسرعة لم يقصدها المارد، حيث أنه لم يسمع من كلام كبير الأقزام كلمة لها معنى، فينظر إلى كبير الأقزام بطرف عينيه، فيفهم كبير الأقزام أن عليه الإعادة مرة أخرى ولكن بسرعة هادئة وهدوء سريع، فيبلع كبير الأقزام في ريق حلقه الذى تشقق من الجفاف، ويقول وهو يتمنى أن ينتهى من هذا الموقف الصعب ولو بالموت:
(بيرسى): القمح يا سيدي العظيم.. القمح لم يعد يكفينا طوال العام.. فما تمنحه لنا بعظمتك لم يعد كافِ لعددنا الذي بدأ يتضاعف.. وقد انتهى من صومعتنا العمومية وباقِ على انتهاء العام ما يزيد على ثلاثة أشهر.. كما أن الزيت الجديد المضيء والناري لم تمنحوا لنا منه شيء ولو نصف المنحة الفصلية.. وهو الذي ابتكرناه لعظمتكم بعد جهد جهيد لجعل الكهف في الليل نهارا وفى الصقيع مدفأة.. بعد أن كنا نظن أن عظمتكم سوف تستبدلوه بالقديم الرديء الذي اجتهدنا في استبداله بالمضيء الناري.. وقد منحتم لنا من الزيت القديم في توزيع هذه الدورة الفصلية، وهو الذي لا يحترق ويجعل بيوتنا طوال ليلنا الطويل مظلمة.. ويترك لنا الصقيع يأكل في جسد ذراريننا وصغارنا.. وكذلك الشعير فسد في صومعتنا ولم تعد تأكله طيورنا.. ولو استمر بنا هذا الأمر وتفاقم لنخرت قوانا عن خدمة عظمتكم.. وخدمة من تريدونه من طرفكم سيدا مباشرا منكم علينا.
(4)
ثم ينحني كبير الأقزام، ويركع، ويسجد، ومن بعده على الفور كل الأقزام دون وعى أو إرادة فهذه الخاتمة اللارادية متعارف عليها في الاحتفال السنوي، بخدمتهم لملكهم ومالكهم وماردهم العظيم.
ويسود الصمت الرهيب جنبات المكان، والمارد العملاق، لا يرد على كلام كبير الأقزام وكأنه لم ينطق أمامه بعد ببنت شِفّة، والجمع ينتظر كلمة واحدة بالرد ولو كانت بالرفض والانصراف، فعلى الأقل سيكون ذلك الرفض أفضل حالا من هذا الانتظار المرعب، ولكن المارد العملاق يستدير فجأة ويدخل كهفه، ويتركهم وقوفا كما كانوا أمامه وكأن على رؤوسهم الطير.. وبذلك يكون عليهم الانتظار أيضا فليس لهم الانصراف دون أذن وتسريح.. كما ليس لهم حسب المتعارف عليه الاجتماع دون إذن أو طلب من المارد في مناسبة معتادة، وهم في انتظار رد الفعل على جمر من الخوف والقلق.
ويتأخر المارد العملاق أكثر من اللازم حتى يخرج فجأة كما دخل فجأة، ولكن خروجه كان غريبا، فالمارد العملاق خرج من كهفه ويحمل بنفسه بين ذراعيه العظيمتين أجولة كثيرة من القمح والشعير والمطلوب غير ذلك من الأقزام، وبقية خدمه يجرون من خلفه عربة عظيمة عليها الكثير من صفائح الزيت الناري المضيء ومزيد من الأجولة الأخرى..
فيتهلل وجه الأقزام فرحا، وترقص بطونهم طربا، وهذا هو الذى لم يجعلهم يتوقفوا حول معرفة سر قبول المارد الغريب، وفى الوقت الآني، فما كانوا يعتقدون، إلا أن المارد سوف يأمر فقط بزيادة وتبديل الحصص الدورية والفصلية، أو منحهم قروضا منها يكون سداده ميسرا على مدار دورات متتالية، ولكن هذا الفعل من ذلك الكائن الذى لا يعرف الرحمة يثير الدهشة والقلق، لكن بطونهم الجائعة أغمضت عيون عقولهم عن تدبر ذلك الفعل العجيب.
فيتوقف المارد ويقيم لوقوفه ظهره بالكامل، ثم يميل لينظر تلك الفرحة ترتسم داخل عيون الأقزام الجوعى، وليسمع بأذنيه طرب بطونهم التي تعوى من شدة الجوع، فيبتسم لأنه يعشق قتل الفرحة ووأد الابتسامة.. ثم يستقيم ليضحك ضحكته الجهورية المزعجة، وبعد أن ينتهى من وصلته يصرخ بصوت عال ينخفض شيئا فشيئا، ولا يخلو من السخرية والتهكم، ويقول وهو يتأمل مشهدهم الذى لن يجعله يتكرر مرة أخرى أبدا:
(كارشون): أعزاءي الأقزام، هذه مطالبكم أحملها لكم بنفسي، فأقبلوا علىّ ساحتي القريبة، لتأخذوا ما طلبتموه من ماردكم العظيم، فأنتم أحبابي الصغار، وليس لي غيركم ليخدمني وليس لكم غيرى ليحكمكم.. ولكن لي شرط واحد أيها القزم الحقير الضئيل "بيرسى".
يرد "بيرسى" وكله نشوة ممزوجة بالطمأنينة:
(بيرسى): لك الشرط والأمر والنهى سيدى المارد العظيم…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأقزام: قصة للأطفال مكتوبة في عام 2003م.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.