فإن العناية بالقرآن العظيم والاشتغال به وخدمته والسعي إلى إيصال رسالته للعالمين كافة، يُعتبر من أجل الأعمال والقربات التي يتقرب بها العبد إلى رب الأرض والسموات؛ وهي من أفضل الطاعات التي يُنفق المسلم الصادق في سبيلها الأعمار والأوقات، ويَبذل من أجلها كل غال ونفيس؛ فقد اعتنى المسلمون منذ فجر التاريخ وانبثاق نور الوحي على ربوع العالم بالقرآن الكريم عناية كُبرى شملت جميع نواحيه وأحاطت بكل ما يتصل به من علوم ومعارف.
وكان لهذه العناية والرعاية آثارها المباركة الطيبة في حياة الناس عامة والمسلمين خاصة؛ أفاد منها كل مظهر من مظاهر النشاط الفكري والعملي عرفه الناس في حياتهم المادية والروحية، وتأسست على هديه المبارك وفي ضوء تعاليمه الرفيعة أمة عظيمة؛ صدّرت كل خير للإنسانية، وأقامت حضارة شامخة أفادت البشرية؛ فلله دُر هذا الكتاب العظيم الذي أحيا الله به أمة من العدم.
وقد اتجهت الجهود الصادقة والقلوب المخلصة من أبناء هذه الأمة جيلا بعد جيل للعناية بالقرآن العظيم تلاوة وحفظا، وكتابة وتفسيرا، ومُدارسة وتدبرا، وتعلما وتعليما، وسَخَّرت الأمة جُلّ علومها ومعارفها لخدمة القرآن؛ إذ لا يكاد يُوجد علم من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في تاريخهم الطويل إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن العظيم من ناحية ذلك العلم.
في إطار اهتمام الأمة بالقرآن العظيم أقام بعض المخلصين من أبنائها هيئات ومؤسسات لتحفيظ القرآن، وتدبر القرآن؛ إلا أنه لم تقم حتى الآن مؤسسة أو هيئة مُتخصصة في ترجمة تفسير القرآن الكريم |
ولم يتوقف عطاء الأمة تجاه القرآن العظيم وخدمته والاعتناء به وبدراساته وعلومه عند هذا الحد؛ بل تجاوزه إلى التنافس في كتابته بأحسن ما تفتقت عنه عبقرية الفنان العربي المُسلم من خطوط هي آية في الجمال والفن والإبداع، وتسابقت الدول والحُكام -حتى الطُّغاة المُتجبرين الفاسدين منهم- فضلا عن أهل الخير في الأمة إلى طباعته على أجود ما تكون الطباعة؛ فانتشرت طبعات المصحف الشريف في كل مكان، وتبارت الدول والحكومات حتى الأنظمة التي تُحارب أحكام وشريعة القرآن العظيم في تقديم الطبعات الفاخرة لكتاب الله جل وعلا، وهذا من فضل الله العظيم على أمة الإسلام، فقد تكفل الحق سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الكريم؛ فقال جل شأنه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ومع هذه العناية والرعاية الكُبرى إلا أنه لا زالت هناك ثغرة قُرآنية في غاية الأهمية لم يتوجه إليها جُهد عام مُنظم ترعاه هيئة أو مؤسسة كبيرة مُتخصصة، وهو ما يتعلق بنشر رسالة القرآن العظيم من خلال نشر التفاسير القرآنية الصحيحة بجميع اللغات التي يتحدث بها سكان المعمورة؛ حيث تقوم هنا وهناك بعض الجهود الفردية المُقدرة، ولكنها غير كافية؛ فقد أقامت الأمة مُؤسسات ومجامع كبيرة للعناية بالفقه والفتوى واللغة العربية والتاريخ والسيرة النبوية؛ وغيرها من التخصصات الشرعية والعربية.
وفي إطار اهتمام الأمة بالقرآن العظيم أقام بعض المخلصين من أبنائها هيئات ومؤسسات لتحفيظ القرآن، وتدبر القرآن، والإعجاز العلمي في القرآن، وطباعة المصحف الشريف؛ إلا أنه لم تقم حتى الآن لأمة الإسلام؛ مؤسسة أو هيئة مُتخصصة في ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى جميع اللغات العالمية الحية؛ باستثناء بعض الجهود الفردية المشكورة والمقدرة التي بادرت أمام هذه الهجمة الشرسة على الإسلام والقرآن إلى ترجمة معاني القرآن إلى بعض اللغات العالمية.
وقامت عدة جهات ولله الحمد بطباعتها وتوزيعها مجانا خدمة لكتاب الله جل وعلا – جزاهم الله عن القرآن وأمة القرآن خير الجزاء-، وقد بلغت عدد اللغات واللهجات التي تمت تغطيتها وفق المنهج الإسلامي السليم وعقيدته الصحيحة الواضحة حوالي (66 لغة عالمية)؛ من أكثر ما يزيد على (4000 لغة يتحدث بها الناس في جميع أرجاء المعمورة)، وهي نسبة – ضئيلة جدا – إذا ما قورنت بالعدد الهائل للغات واللهجات الحية في العالم، وأيضا هي نسبة -قليلة جدا- إذا ما قُورنت بجهود الآخرين المُنظَّمة والمُوَجَّهَة لتحريف معاني القرآن العظيم؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر الدقيق قامت الكنائس والمنظمات التنصيرية حول العالم بطباعة ترجمات مُحرفة لمعاني القرآن إلى أكثر من (150 لغة).
وقام الشيعة عبر مؤسسة (ترُجمان الوحي) بإيران، بطباعة ترجمات قُرآنية مُحَرفة لمعاني القرآن؛؛ تصل إلى ما يزيد عن (200 لغة)، وبعض هذه اللغات قدموا فيها أكثر من تفسير مُوَجَّه إلى مُستويات ثقافية مختلفة! وقامت الفرقة (القاديانية) المُنحرفة؛ المُسماة – بالجماعة الأحمدية- التي صنعتها بريطانيا أيام احتلالها للهند واستخدمتها لضرب الإسلام والطعن في القرآن، والحرب على المسلمين؛ بطباعة ترجمات مُحَرفة لمعاني القرآن العظيم إلى أكثر من (150 لغة)؛ بل إن أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية في العصر الحديث كانت (قاديانية مُحَرَّفة)، وهي ترجمة القادياني محمد علي اللاَّهُوري!، هذا فضلا عن الجهود الحثيثة التي يقوم بها هؤلاء جميعا لتشويه رسالة القرآن، والتلبيس على أمة الإسلام؛ في ظل غياب شبه كامل لأمة الإسلام، ونقاوة المسلمين -أهل السنة والجماعة-، ومؤسساتها الكُبرى العملاقة كالأزهر الشريف قلعة الإسلام الحصينة، وحائط الصد المنيع ضد المؤامرات على الإسلام والقرآن ولغة القُرآن.
الأزهر الشريف الذي تُعول عليه الأمة خيرا، وتنتظر منه الكثير بعد تحريره من هيمنة الطغيان العسكري والتسلط الإجرامي للكنيسة، وقد سعيا بكل اتجاه لتحجيمه وتهميش دوره ومكانته في الأمة، فضلا عن مُؤسسات الدعوة والأوقاف والشؤون الإسلامية الأخرى بدول العالم الإسلامي، الغارقة في أوحال السياسات المعادية للإسلام وشريعة القرآن، والتي تبذل غاية جُهدها في التماهي مع هذه السياسات الفاسدة، وتبرير وشرعنة الاستبداد والظلم والفساد والإجرام والطغيان إرضاء للطغاة الفاسدين المُحاربين لدين رب العالمين؛ بعيدا عن دورها الرئيس في خدمة الإسلام؛ بتبليغ رسالات الله، ورفع راية القرآن، ونُصرة قضايا الأمة، والدفاع عن حقوق المستضعفين من المسلمين!
وقد استغلت هذا الفراغ الحاصل عن تقاعس وتكاسل هذه المؤسسات الإسلامية وانحسار دورها، وعدم قيامها برسالتها الحقيقية كما ينبغي!، تيارات فاسدة تروج للعلمانية والشيوعية، والعقائد والأفكار المُنحرفة والأوضاع والأخلاق الفاسدة المُهترئة، وظهرت داعش وأخواتها بإجرامها وإرهابها المدمر غير المسبوق، وعمت حالة من الفوضى والبعثرة الفكرية طالت كل مناحي الحياة، وانعدمت الأخلاق والقيم، وقلّ الاحترام والتراحم بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهل من مُراجعة جادة، ووقفة صادقة مع النفس؛ نُعيد فيها قراءة واقعنا، وتحديد أولوياتنا، واستشراف مُستقبلنا، والقيام بدورنا الرئيس في تبليغ رسالات الله على النحو الذي أراد الله من خلال نشر معاني القرآن الصحيحة في كافة ربوع الدنيا، إنقاذا لأنفسنا ولمنظومتنا الأخلاقية من هذا التردي والانهيار الحضاري أولاً، ثم إنقاذا للبشرية من حولنا، وهذه هي رسالة أمة الإسلام، وهذا هو قدر أمة القرآن، والله وحده المُستعان!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.