شعار قسم مدونات

أيها الأوروبيون حضارتكم سرقت منكم..

مدونات - هتلر وموسيليني

عند تفقدي للتاريخ الحديث والمعاصر وجدت أحداثا جعلتني أنظر في التاريخ الأوروبي والعالمي نظرة المتفحص المتعجب، أولى تلك الأحداث الثورة الفرنسية، ثم الحربان الكونيتان في النصف الأول من القرن العشرين. 

 

الثورة الفرنسية

طبعا لا أحد ينكر أن عصر النهضة كان تأسيسا لحضارة أوروبية فريدة من نوعها، فمنذ القرن الخامس عشر إلى حدود 1789، تاريخ الثورة الفرنسية، كان هناك إصلاح ديني جعل الكنيسة ترفع يدها رويدا، عن كل ما من شأنه تقييد العلم والمعرفة، كان هناك تجانس وتناغم في أتون هذا الإصلاح بالرغم من تلك الحروب الدينية التي دخلت فيها، والتي تعتبر حالة طبيعية لدى نخبة رأت بساط السلطة والمال يجر الهوينى من تحت أرجلها، وكانت الغلبة لطبقة البرجوازيين الذين فكروا بدهاء وأخذوا يرتبون بشكل تدريجي، من أجل ملء فراغ السلط الحاكمة الارستقراطية والدينية، وقد كان الدهاء ممثلا في استغلال عاطفة الشعب المقهور بشعارات رنانة يتطلع إليها كل إنسان، الحرية و المساواة، كما ارتكزت البرجوازية على استقطاب العقول من مفكرين ومثقفين، هؤلاء كانوا هم الركيزة التنظيرية والمعرفية، للوصول بصيغة الاحتقان الشعبي إلى مداه الأقصى المتمثل في الثورة، وكذلك كان فجاءت الثورة الفرنسية سنة 1789.

 
المتشدقون بالثورة الفرنسية لا يكاد يلحظون في خضم الفرحة والمتعة، أن الثورة سرقت منهم، كما سرقت في العهد المعاصر من أيدي الشعوب العربية نفسها. إنه سيناريو يعاد بآليات وأشخاص آخرين، لكن الهدف يبقى هو: توهيم الشعوب بالحرية واستفراغ عقولهم من كل قيم دينية أو أخلاقية، وتعويضها بفلسفة موت الإله كما ادعى ذلك نيتشه، وأن الإنسان سلطان نفسه.

 

اليوم هناك إنسان آلي لا يرفض شيئا مما يقدمه له الإعلام والموضة وثقافة الاستهلاك، اليوم نبعث من جديد وفق مقاربات موت الإنسان وموت الإله كما ادعوا سابقا، ليجعلونا مجرد آلات تخدم مصالحهم

كانت الثورة الصدمة الأولى التي أخرجت الأرستقراطيين النبلاء والاكليروس رجال الدين، من أماكنهم التي عاثوا فيها فسادا، هؤلاء كان لا بد أن تقام ضدهم ثورة لإرجاع العدل والمساواة في أوربا، وبالخصوص في فرنسا، لكن هل يا ترى البرجوازية الأوروبية حملت مشعل العدل حقا أم أنها حورته؟ البرجوازية الفرنسية والأوروبية بصفة عامة، كانت أكثر جشعا وتسلطا من الملوك والنبلاء ورجال الدين، لكنها كانت أكثر دهاء، من خلال اعتماد قوة لينة تارة وقوة ضاربة لا ترحم تارة أخرى، تمثلت القوة اللينة في تحييد دور الدين بصفة ملموسة من واقع الشعوب الأوروبية، واستلهام قوانين بديلة تمجد الإنسان، بكونه الأقدر على صياغة قوانينه بنفسه دون الحاجة إلى شرائع دينية، فكان الإعلان عن مواثيق حقوق الإنسان والدستور وتعميم الحرية وإخراجها من ضوابط الدين، ملهما للشعوب المقهورة، التي أشير لها أن واقعها المزري، ما هو إلا نتاج تشبتها بدين مسيحي وأخلاق موروثة مقيدة.

 

لكن واقع الحال أن البرجوازية الأوروبية سرقت حضارة الكادحين من بين أيديهم وهم ينظرون، البرجوازية الأوروبية كانت أكثر جشعا من أولئك النبلاء والملوك المفسدين، فالبرجوازية أعانت ديكتاتورية نابليون، وأعادت تجميع الوعي الجماعي في إطار الإنسان السوبرمان، الذي مثلته في شخص نابليون، لتمحي من ألباب الأوروبيين شخصيات متوارثة في دينهم كشخصية المسيح المخلص مثلا، أليست هذه البرجوازية هي التي أسقطت حكومة الشعب الفرنسي الذي تولت الحكم عقب الثورة؟ أليست هي من جاءت بنابليون العسكري مكانها؟ (ألا تلاحظون وكأن التاريخ يعيد نفسه، ثورات عربية أسهم فيها الشعب الكادح بدمائه، تقتنصها طبقات ذوي المال، التي ما تنفك تتحالف مع بقايا النظام البائد العسكري أو المدني، لتعيد النظام في صورة أخرى، حدث هذا بإسقاط حكومة الشعب المصري برئاسة مرسي، من طرف العسكري السيسي، وكذلك في تونس بإسقاط المرزوقي بانتخابات وتفاهمات تحت الطاولة، ومجيء السبسي، حفتر في ليبا،..).

 
هكذا انتظر المواطن الأوروبي الموهوم بالحرية، المسلوب بالمساواة، انتظر واقعا فريدا يخرجه من وضعه البئيس في القرن 19، ولعل رواية الأديب الكبير فيكتور هوغو لتعد وصفا بليغا لتلك الحال التي أفرزتها سيطرة البرجوازية الفرنسية، من غلفت جشعها بعلمانية استغلت توق الإنسان الى الحرية وقهر الظلم، وجعلته مجرد آلة إنتاج تتلاءم مع إفرازات القرن التاسع عشر، ومجرد بنادق محمولة على الأكتاف يضحى بها في حروب نابليون، أو حروب الاستعمار خاصة في شمال إفريقيا.

 

فيكتور هوغو لمح في روايته الشهيرة، إلى ان القانون المفرغ من الأخلاق والحس الديني الحقيقي المتمثل في أخلاق المسيح، لا في جشع رجال الدين، هو قانون لن ينصف الإنسان، بل يجعله مجرما متحايلا، وهو قانون ظلم البائس جان فالجان الذي أصبح مجرما وحكم عليه بالسجن لمدة 19 سنة لسرقته خبزا.

 

الحربان العالميتان وموت الإنسان

 

undefined

 

كما أسلفنا الذكر ما كان منتظرا من تطور الوضع المعيشي للمواطن الأوروبي بعد الثورة الفرنسية، كان مجرد شعارات، والرابح الأكبر كانت فيه البرجوازية سواء الفرنسية، أو الأوروبية او الأمريكية التي أخذت بالتشكل بعد استقلال أمريكا سنة 1776 م، المواطن ليس إلا حطبا يشعل نار الأرباح لهذه الطبقة التي سيطرت على أوريا وأمريكا، المواطن يخدعونه بشعار الحرية والمساواة لحمله على إنتاج أكثر، إنها سياسة الجزرة التي اعتمدتها تلك النخب مع شعوبها، مقابل سياسة العصا التي ترك لحكام الشعوب العربية ممارستها منذ الاستقلال، لتطويع الرعايا وفق إرادة الحاكم وإرادة النظام العالمي وضغوطاته. لهذا تتشدق الأمم الغربية بقيم الحرية والمساواة، وضمنت لمواطنيها طبعا بعد الحرب العالمية ترفا مؤقتا، لا يستطيع الديمومة دون إشعال حروب وأزمات وتفقير شعوب أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

 

وبالعودة إلى الحرب خصوصا الحرب العالمية الأولى، نجد أن أوربا أقحمت في خضم حرب كونية، جعلت المنتصرين فيها وهم البرجوازية البريطانية والفرنسية، يستحوذون على العالم ويقتسمون الجغرافيا الشاسعة لإمبراطورية العثمانيين وفق تقسيم سايكس- بيكو سنة 1916، وكذلك وعد بلفور سنة 1917، ووعد بلفور هذا يعطينا بشكل جلي حقيقة هذه البرجوازية الأوروبية المسيطرة آنذاك، والتي تمثلها عائلات ذات نفوذ عالمي كبير.

 

طغمة جعلت العلمانية ممهدا لتغولها، فبالعلمانية أزالت تلك الطغمة كل المقاومات الدينية والأخلاقية والثراتية التي تجعل الإنسان يرفض هذا ويقبل ذاك

في الجانب الآخر كانت هناك برجوازية أوروبية وليدة، لم تدخل في نطاق الرجوازية الفرنسية البريطانية المسيطرة، برجوازية أخذت تنظر بواقع الحقد، وأحست بنوع من الغبن، وهي ترى أوربا تستحوذ عليها برجوازية لا تمت بصلة الى تكوينها الإثني، لهذا برزت تنظيرات تفوق الجنس الآري ضدا على هذا الإحساس بالغبن، حيال وجود برجوازية أوروبية أخرى متقدمة ذات أصول في أغلبها يهودية، والتي كانت مسيطرة كما سبقت الإشارة على بريطانيا وفرنسا، وهناك في أمريكا.

 
فتجلى هتلر بكاريزميته بألمانيا وكذلك موسوليني بإيطاليا، وحملا شعار التقدم الأوروبي الخالص من السيطرة الفوقية من أي عرق، خاصة العرق اليهودي، الذي لاحظ هتلر مدى تغلغله في أوربا ومحاولة استحواذه عليها. كانت شخصية الألمان وحتى اليابانيين وشيئا ما الايطاليين، شخصيات صارمة، لها حمولة تاريخية مهمة، ولها دوافع للتقدم دون أيدي الآخرين، محاولة هذا الثالوث كانت رغبة في الخروج والتحرر من نظام أفرزته الحرب العالمية الأولى، جعل برجوازية معينة ذات أصول يهودية أو مرتبطة بها، هي المستحوذة على العالم، كانوا يرفضون أن يسلب تقدمهم من بين أيديهم وهم ينظرون، فكان أن قامت الحرب العالمية الثانية التي ذهبت بحياة أكثر من خمسين مليون أوربي، في وقت هاجرت فيه البرجوازية الفرنسية والبريطانية إلى أمريكا، وأضحت تراقب من بعيد عمليات إبادة برجوازية مقاومة لها، بل وتراقب عمليات الصدم للمجتمع الأوروبي، وتحييد كافة المقاومة الذهنية التاريخية والوعي الديني والثقافي المتبقي، وأدلجته بمفاهيم أخرى تعتمد على تفوق الإنسان وعدم خضوعه لأي قوى أخرى، وأنه خلق لينتج ويستهلك فقط، خلق ليتبع غرائزه ويشبعها دون قيد أو مانع، وهذا ما تجلى بعد نهاية الحرب وإعمال مشروع مارشال.

هكذا سلبت الحضارة الأوروبية من أيدي أبنائها، وجعلت في أيدي طغمة لا تؤمن إلا بمصالحها، لا يهمها لا أوربي ولا إفريقي، طغمة في إطار النظام العالمي الجديد، لا تنظر إلى الإنسان إلا بوصفه آلات إنتاجية، وقيم استهلاكية إحصائية، طغمة جعلت العلمانية ممهدا لتغولها، فبالعلمانية أزالت تلك الطغمة كل المقاومات الدينية والأخلاقية والثراتية التي تجعل الإنسان يرفض هذا ويقبل ذاك. اليوم هناك إنسان آلي لا يرفض شيئا مما يقدمه له الإعلام والموضة وثقافة الاستهلاك، اليوم نبعث من جديد وفق مقاربات موت الإنسان وموت الإله كما ادعوا سابقا، ليجعلونا مجرد آلات تخدم مصالحهم.

  
الآلة تخاطبكم، الآلة تشرعن لكم، الآلة تختار أذواقكم… وهم بيدهم أزرار كل شيء، فالحاكمون والمحكومون مجرد أزرار بأيديهم، سعوا إلى هذا ويسعون، والألباب حيرى ضائعة، فلا غرابة ما دمنا نرخي السمع لأصواتهم، ويسلبنا نور الساحر، مع كونها مجرد أفاع تسلب الناظرين، ولو وقفت أمام الحق، لالتهمها في رمشة عين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.