منذ أيام وأنا أردد عنوان المقال.. وأجد راحة تغشى فؤادي وابتسامه تعلو محياي وذاكرة ترسم أمام ناظريَ أناسا أعشق مشاركتهم الكلمة.. ومشاطرتهم البسمة.. من غير تكلف ولا تصنع.. لا أدري من أي أديم الأرض قد خلقوا.. لتكون لهم قلوب لا تنظر إلا مكارم أخلاق من عرفوا.. حباهم الله قلوبا تعرف كيف تزن الناس.. تزنهم بأخلاقهم وتواضعهم.. ولا تنظر إلى ما ترتديه جسومهم ولا ما تمشي به أرجلهم ولا ما تحمله أيديهم.
أولئك قوم تعرف في وجوههم قسوة الدنيا.. تقرأ في أعينهم عزا رغم الحاجة.. هم حقا تعرفهم بسيماهم ولا يسألون الناس الحافا.. أيا ما كان قدرك.. تستوي عندهم فبسمتهم واحدة ودفء قلوبهم يسع الجميع. نعم.. هم كذلك.. نحن فقط من يفرق بين بني البشر.. نرى منهم صنوفا وألوانا صنعتها الأموال المصحوبة بكِبر النفس وخيلاء الروح.. نحن فقط من نفرق بين من يملك قميصين يبادلهما الدور في الملبس.. وبين من تظن انه يملك سلسلة متاجر للملابس الجاهزة من كثرة ما يرتدي. نحن فقط من نفرق بين من يشتري الكتاب الأصلي.. ومن يستعيره.. نحن فقط من نفرق بين من يركب سيارة الأجرة.. ومن يستعين بوسائل النقل العام. نحن فقط من يفرق بين من يتناول اللحم يوميا.. ومن يتمناه ولو مرة.
فلك أن تتخيل يا رفيقي أن الواحد أصبح يقيم بجودة حذائه وعلامة قميصه التجارية وغيرها منن المقاييس الباهتة.. ما بال البصائر قد أصابها العمى.. كلما امتدت الأبصار إلى ما بين ايدي الخلائق.. فباتت العقول تتغافل عن كلِ ذي ثقل كعلم أو دين أو حكمة أو سداد رأي.. أو اخلاق كريمة ومعاملات حسنة.. وأصبح الميزان كم يملك مالا.. وكم يملك من قطع الثياب.. وهل تتزين هي بالحلي أم لا.. وهل يرتاد المطاعم والفنادق.. وهل يسافر في عطلته أم يمكث.
أحب الصنف الملائكي الذي إن أهديته وردا رأى فيه بستانا وجنة.. هو يعلم قلبك الذي بين جنبيك فلا يزنك بمال أو ما شابه.. وإن هممت بالجلوس معه تنتشي روحك وتمتلئ رئتيك بعبير الأنس والراحة |
كم يلزمنا لنعي أن مقياس التفاضل هو التقوى.. وليس هذا الهراء الذي افترضته ظروف افتراضية.. تالله إن القلب ليحزن على ملاقاه صديق.. يمد إليك يده ونظره يجوب ما بين رأسك إلى أخمص قدميك لينظر ما جديد ملبسك اليوم.. بل إن رأى شيئا جديدا لا يكفيه ليصمت.. بل ينفث سمه الفتاك ليخرج لك ما يختلج فؤاده ويملأ عقله… فيسألك لما لم تقتنِ ما تلبس من العلامات التجارية المعروفة.. وكأنك أمامه تتحول إلى عملة معدنية تلقى في حصالة الادخار.. ولا يمكنك أن تماشي مثله.. فهو عملة ورقية من العملات الصعبة.
تشعر بالفرق الذي هو كما بين المشرق والمغرب إن جلست الليال الطوال تفكر ما سوف تهديه.. بل تبذل وقتا وجهدا ومالا لأجل ان تسعده وترى ابتسامه رضا وتقدير على ما فعلت.. ولكنك حقا لا ترى غير نظرات تحمل الكثير في مقتضاها.. فهو لم يعتد على مثل هذه الهدايا.. عودته الدنيا ان كل شيء يراه بعين المادية.
أما الصنف الملائكي الذي إن أهديته وردا رأى فيه بستانا وجنة.. هو يعلم قلبك الذي بين جنبيك فلا يزنك بمال أو ما شابه.. وإن هممت بالجلوس معه تنتشي روحك وتمتلئ رئتيك بعبير الأنس والراحة.. فأنت تعلم أنك بين أمثال هؤلاء ذو وزن.. نعم.. بقرآن تحفظه وعذب صوت حباك الله إياه.. أو بكتاب قرأته وازددت به علما.. أو بذكر حسن وسيرة طيبة تسبق جسدك إلى المجالس وتتأخر عنك إن هممت بالقيام.
نعم.. هؤلاء لا تحمل همَّ لقياهم.. هم يريدون روحك النقية قبل كل شيء.. بل لا يريدون غيرها. هؤلاء هم عِقدُ اللؤلؤ الذي يستحق أن يُقَلِّد العنق.. وتاج الزبرجد الذي يتوج الرأس ليراه الجميع.. أمثال هؤلاء البسطاء الذين لا يستطيعون تَكَلُّفاً يعلمون روحك كيف تهبط من ذل الكِبر الى عز التواضع.. يذكرونك دوما بأصلك ومآلك.. بأنك من تراب وعلى تراب وإلى تراب. أولئك المقتدون بسيَّر الأوائل الذين ما ملكوا مال الدنيا ولكن ملكوا جنة الآخرة.. نعم.. فأولئك لم يملكوا شيئا عليه يحاسبون يوم العرض على الله.. وتظل نفسي وروحي تتوق الى مجالس البسطاء والمساكين.. الذين لا يعرفون شيئا من هذا الذي ذكرت.. بل لا يعلمون أن دعائي لا يحلو إلا بذكرهم.. فاللهم احشرني في زمرة المساكين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.