شعار قسم مدونات

واقع المعايير الصحفية في ظل الأزمة اليمنية الراهنة

blogs الإعلام

لا زالت الصورة عندي حتى الآن وعند الكثير غير واضحة عن تفاصيل المشهد اليمني والفاعلين فيه، فشخصية قيادية فاعلة مثل ابو العباس للمقاومة في تعز لا يُعرف على وجه الدقة طبيعة الخلافات الحاصلة بين مجموعته وبعض مجموعات المقاومة في تعز وأسبابها، كما أن غياب الآلة الإعلامية المستقلة في المناطق الخاضعة لنفوذ الحوثي جعلت الواقع اليمني يقدم في تلك المناطق من وجهة نظر حوثية آحادية، فمقطع الفيديو الذي انتشر قبل مدة لاعتداء الحوثيين على بعض النساء في صنعاء تنصل منه الحوثيون ولم نجد تحقيق أو تغطية إعلامية محايدة تقدم لنا كامل المشهد لتلك الحادثة وهو ما دفع بالأمر نحو تفسيرات سياسية قدمتها وسائل الإعلام بعيدا عن أي معايير صحفية معتبرة.

خيبة أمل المشاهد اليمني في الإعلام المحلي لا توصف، فالواقع الإعلامي اليمني اليوم لا يعدو أن يكون انعكاسًا لاتجاهات سياسية ومصلحية، ولا نجد إعلام مهني أو مستقل يلتزم بالمعايير الصحفية في تغطيته للأخبار والأحداث الجارية في ظل الأزمة اليمنية الراهنة.

غياب الموضوعية:
الحياد الصحفي من المعايير التي اختلف في معناها الناس، غير أن الثابت أنها تعني الانحياز للحقيقة والحقيقة فقط، حتى وإن خالفت ميول الصحفي واتجاهاته الفكرية والسياسية

يأتي في مقدمة المعايير الصحفية الموضوعية والتي تعني ببساطة تقديم تغطية إعلامية تتسم بالمصداقية والتوازن والنزاهة، غير أن المتابع للقنوات ومواقع الأخبار وشبكات التواصل المهتمة بالشأن اليمني، يجد أن ما يقدم فيها لا يمت للموضوعية بصلة، وأن واقع التغطيات الصحفية ما هو إلا عكس لرؤى شخصية وتوجهات سياسية، ودائمًا ما يجري تناول تلك الأخبار من وجهة نظر واحدة لا ثاني لها ولا ثالث!

يرى الصحفي اليمني "أمجد خشافة" أن هذه الصورة من التدني والتراجع عن أهم قيمة خبرية "كالموضوعية " هي نتاج طبيعي سيئ للبيئة الحربية التي تشهدها اليمن، إذ أفرزت الحرب خلال الثلاث السنوات الماضية عن صحافة صراع غير منشغلة بالقيمة الموضوعية على أساس أن "الخبر ملك للقارئ " بدون رتوش، ويضرب لذلك مثالا؛ فيقول : حين تتحدث الأخبار الرسمية الخاصة بالشرعية أو بالانقلاب عن قتلى أحد الطرفين بصيغة "عشرات القتلى" يعد ذلك صيغة للهروب من تقييد العدد نتيجة لعدم وجود القتلى أصلًا أو للمبالغة، وهذا ينافي الموضوعية الصحفية تمامًا .

وعن سبب تراجع الموضوعية الحاد في الصحافة اليمنية فيرى الصحفي اليمني "رياض الأحمدي" أن حالة الحرب والتناحر خلقت جوًا من العداء والذي جعل أغلب وسائل الإعلام جزءاً من أدواته، كما أن التضييق الحاد على الحريات بالإضافة إلى توقف الصحافة المستقلة أو شبه المستقلة لأسباب مادية أو لعدم توفر بيئة آمنة للعمل يعد أحد أسباب تدهور الموضوعية في الصحافة اليمنية.

سقوط الحياد:

الحياد الصحفي من المعايير التي اختلف في معناها الناس، غير أن الثابت أنها تعني الانحياز للحقيقة والحقيقة فقط، حتى وإن خالفت ميول الصحفي واتجاهاته الفكرية والسياسية، والحاصل في اليمن هو أن " الحياد" سقط صريعًا تحت أسنة الأقلام وفي أزقة شبكات التواصل، والصحفي المستقل اليوم في اليمن ممن ليس له انتماء عضوي بأي تيار أو توجه سياسي قد وقع تحت التأثير السياسي، فنجده يحجم عن تناول بعض الأحداث أو يمتنع عن نشر بعضها بشكل كلي أو جزئي لأسباب قد يراها وجيهة!، وهذا سلوك سياسي بامتياز يمارسه الصحفي يخالف مبدأ الحياد للحقيقة والانتصار لها.

في الإعلام اليمني اليوم وتأثرًا بالصراع الدائر وقعت المؤسسات الإعلامية والصحفيون فريسة للإنحياز بأشكاله وأنماطه المختلفة

ويرى "خشافة" أن سبب ذلك يعود لأن الحياد لا قيمة له أمام الظواهر السياسية المهددة لمصير بلد أو أغلبية، كما يعتقد أن التزام الحياد في الحالة اليمنية بعدم مناهضة مشروع الانقلاب الحوثي مثلًا والذي يدعيه بعض الصحفيين اليمنيين لا يعد حيادًا بقدر ما هو انحياز لمشروع الانقلاب، والحياد كما يراه هو في التعامل مع جماعة الحوثي يعني مناهضة الإعلام اليمني له كونه انقلابا على الإرادة الشعبية، ولأن ذلك يعد جزء من القيمة الخبرية للصحفي والمعروفة "بالمسؤولية الاجتماعية" والتي تؤكد تحمل الصحفي لمسئوليته الاجتماعية في الحفاظ على المكاسب المشتركة للمجتمع ومقاومة أي تهديدات لها.

ظاهرة الانحياز:

في الإعلام اليمني اليوم وتأثرًا بالصراع الدائر وقعت المؤسسات الإعلامية والصحفيون فريسة للإنحياز بأشكاله وأنماطه المختلفة، ويمكن أن يجد المدقق في سيل الأخبار والتغطيات المتعلقة بالشأن اليمني صورًا لا تعد من الانحياز المضر بالحقيقة، فهناك الانحياز لمصادر معينة يستقي منها الصحفي معلوماته وأخباره ولا يتجاوزها لغيرها!، كما أن الانحياز باستخدام معجم محدد من المصطلحات والأوصاف "كشهيد" و"داعشي" و"متمرد" أمر شائع اليوم في الصحافة اليمنية، كما هو الحال أيضًا في الانحياز باختيار قصص محددة تخدم توجه وأفكار معينة، ومن صور الانحياز أيضًا تقديم الرأي كخبر بشكل مقصود وموجه، ومن أكثر مظاهر الانحياز شيوعًا خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي ما يعرف "بالعواجل" جمع لكلمة "عاجل" وهي أخبار يقدمها الصحفي للمتلقي على أنها مهمة، بينما لا يقدم غيرها بنفس الصيغة والاهتمام وإن كانت أهمّ.

وعن أثر الانحياز السلبي على الصحافة اليمنية يشير الصحفي اليمني "أحمد الصباحي" أن ذلك سبّب حالة من الانهيار شبه التام للصحافة اليمنية، ويرى أن من يحاول ممارسة مهمته كصحفي محايد لن يجد البيئة المناسبة التي يعمل من خلالها، خصوصًا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين التي لا تسمح لأي صوت إعلامي أن ينقل وجهة نظر مخالفة لهم.

وقد أدى انعدام أو ضعف الالتزام بالمعايير الصحفية في الحالة الإعلامية اليمنية الراهنة إلى نتائج سلبية على الصحفي والمتلقي، فالصحفي قد ضعفت مصداقيته وأصبح لا يُرى إلا وسيطًا وصوتًا لاتجاهات سياسية معروفة، بينما أصبح المتلقي يتلمس مصدرًا إعلاميًا يلتزم بالمعايير الصحفية ولا يكاد يجد، وهو ما ولّد لديه بالإضافة لأزمة الثقة في وسائل الإعلام ضبابية وعدم وضوح في قراءة ما يجري على أرضه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.