شعار قسم مدونات

مشروعُ نهضة (3).. كيف نهيئ البيئة الصالحة للنهضة؟

BLOGS مجتمع

إن الإنسان الذي يُعتبر بناؤُه السليم هو الحل الناجع لرسم معالم نهضةٍ عربيةٍ متكاملة، يحتاج إلى بيئة صحية لكي يتناغمَ تطورُه مع مُحيطه وبيئته، فلا يمكن بناءُ إنسانٍ محاطٍ بهالةٍ ضخمة من الظلم والفساد، والمجتمع هو الذي يرسم للإنسان طبيعة حياته، ولا يعيشُ الإنسانُ لنفسه أو بمعزلٍ عن محيطه، إذ لا بد له من أن يتعامل معه بشكلٍ من الأشكال، وهذا التعامل يحمل في طيّاته تأثيراً فاعلاً عليه لا مفرّ له منه، وبالتالي فالتركيز على بيئة الإنسان من أهم مُقوّمات مشروع النهضة العربية.

 

إن الإنسان المُؤهل الذي نطمحُ إليه ليلعبَ دوره النهضوي بنجاحٍ هو نفسه من يُؤسّس لبناءِ أسرةٍ تحمل على عاتقها مسؤولياتٍ جسام، وليس أمام هذه الأسرة سوى خيارين اثنين، إما أن تُساهم في مشروع النهضة مساهمةً فاعلة، وإما ستصير وبالاً على المجتمع تزيد من معاناته وتُوغل في جرحه.

إنّنا مجبرون على رسم خارطةٍ أخلاقيةٍ لمجتمعاتنا واضحة المعالم، فالأخلاقُ أصل الحكمة والاتّزان والسموّ، وإصلاحها بداية الطريق الصحيحة نحو نهضةٍ اجتماعية حقيقية، فهي التي تحفظُ العلاقةَ بين الطالب وأستاذه، بين العامل ورئيسه، بين الوالد وولده، بين الرّاجل والسائق، بين الصغير والكبير، بين كل فئاتِ المجتمع، وتفسّخ هذه العلاقة مع انتشار الظلم والفساد وغياب الحقوق الفردية والجماعية، هو النتيجة الحتمية لغياب الأخلاق في العمل والمعاملات.

 

لا بدّ لنا أن نُكرّس سياسة الاهتمام والإنصات تُجاه الإنسان العربي منذ الصّغر، فهو في حاجةٍ ماسة إلى مراكز متخصصة يلجأ إليها بهدف الاستشارة وطلب النصح

والأخلاقُ لا تُربى في النّشء بالضرب والترهيب والعقوبات، بل لها أساسياتها العلمية التي لا بد وأن تُدرَّس للآباء والأمهات، فالأسرة هي البذرة التي تُعطي لنا زاد المستقبل ورجال الغد، ويا له من زاد، وبعض الدول الإسكندنافية وصل بها الأمر إلى غلق سجونها نظرا لأن الجريمة قلّت بشكل كبير، ليس لأن العقوبة رهيبة رادعة، ولكن لأن الوعي الإنساني لدى هذه المجتمعات وصل إلى درجة من الرقي والنضج ما جعلها في غنىً عن اقتراف الجرائم وفعل المحظورات.

إن البيئة التي يترعرعُ فيها الطفل يجب على العلم والأخلاق أن يكونا فيها بمثابة الزهور التي تُزين حديقةً غَنّاء، لذا وجب إشغاله بما ينفع وإلا اشتغل بما لا ينفع، وما ينفع الطفل أو الشاب لا يخرج عن دائرة الاهتمام بالعلم والثقافة والفن، ففيهم تُهدَر الطاقة التي لا بد لها وأن تُستهلك في هذا السنّ، وإلا استُدرجتْ من أيادي خفيّة لتتحوّل إلى كراتٍ من الجمر تُهدّد استقرار المجتمع في أي لحظة، ولا يُمكنك أن تُوجّه إنساناً جاهلاً، لكنّك تستطيع أن توجه إنساناً واعياً ولو كان على قدرٍ بسيطٍ من الثقافة، وهذا الوعي يأتي من سياسةٍ تعليميةٍ وتربوية تحترمُ المعايير المُتعارف عليها، فإذا غلبَ الوعيُ انتصرَ المجتمع على كل السلوكيات المُشينة واحْتواها.

ولا بدّ لنا أن نُكرّس سياسة الاهتمام والإنصات تُجاه الإنسان العربي منذ الصّغر، فهو في حاجةٍ ماسة إلى مراكز متخصصة يلجأ إليها بهدف الاستشارة وطلب النصح والتوجيه لاتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ في مسيرته، سواء كان توجيهاً نفسياً أو تعليمياً أو عملياً أو غير ذلك، وهذا من شأنه أن يُعزّز روابط الثقة بين المؤسسة والمواطن، كما أن تدريس القوانين منذ السنوات الأولى للدراسة ضروري للغاية لتربية جيلٍ مميّزٍ لحقوقه وواجباته، يحترمُ العقد الاجتماعي ولا يتصرّف إلا في حدود القوانين المعمول بها، في حين نجد أن مادة القانون في الدول العربية لا تُدرّس إلا كتخصص بعد أن يبلغَ التلميذ مستوى التعليم الجامعي، وهذا خطأ جسيم.

كما أن حرية الاختيار الدراسي كفيلة بأن تمنح لنا عقولاً منتجة، ومهاراتٍ فطرية فارقة، فطالب العلم لا يُقيَّم من امتحانٍ واحد، ولا يحدّدُ هذا الأخير مستواه ويفصل في مُستقبله بشكلٍ نهائي، إذ لا بدّ لنا أن نفسح المجال أمام الطالب العربي لاختيار ما يرغب فيه ويناسبه شخصياً، وأن لا يكون هذا الاختيار المبدئي سيفاً على عنقه يمنعه من تغيير تخصصه وميولاته الدراسية متى شاء، ولا بد لنا أن نعيد الاعتبار للجامعات والكليات فهي المرآة التي تعكسُ بوادر المستقبل، وأن تكون الميزانيات المخصصة لها أكبر من أي ميزانية أخرى، وأعتقد أن تعزيز التعاون وتبادل الخبرات والتقنيات بين الجامعات العربية وتعميم المنحة الكافية وتبسيط إجراءات الدراسة فيها، خطوة فعالة للرقيّ بها وتشجيع التنافسية بين الطلبة، ويبقى العمل على تغيير صفة الأستاذ الجامعي من عسكري صارمٍ أو سفيرٍ فوق العادة إلى مُربي أجيال وناقلٍ حقيقي للمعرفة أمراً مهما.

إن الحوار الاجتماعي بين مختلف المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والذي من المفترض أن يكون حواراً جدّياً بنّاء يعكفُ على إيجاد حلول ناجعة لمعضلات المجتمع، نراه وللأسف يخوض في أمور سياسيةٍ بحتة بعيدة كل البعد عن هموم الناس، فالطاقة تُهدر بالتالي في السياسة والأحداث السياسية الفارغة من كل هدفٍ أو منفعة.

 

إن الأحزاب السياسية الممثلة لإرادة الشعوب التي انتخبتها تعيش بمفردها في وادٍ وتطلعات المجتمع وانتظاراته في وادٍ آخر تماما، لا يلتقيان سوى عند صناديق الاقتراع ولا يتحاوران سوى في أيام الانتخابات، مع أن الأحزاب السياسة هي بطبيعتها متحدثة بلسان المجتمع تُعبر عن هواجسه ومطالبه وليست مُسوّقة لفكرٍ حزبي أو توجه سياسي، وتجدها مرشحة دون برنامج أو مخطّط قابل للتنفيذ على أرض الواقع، حتى إذا فازت بالانتخابات أصابها الضياع وفشلت فشلاً ذريعاً في تدبير أمور الناس، لأنها تحملت مسؤولية أكبر من إمكانياتها، ولأنها سوقت لأكاذيب ووعود أكبر من قدراتها، ولأنها دخلت غماراً ما كان لها أن تدخله حتى تستعدّ بما فيه الكفاية لتحدياته العويصة، وحتى تتيقنَ تمامَ اليقين أنها جاءت من رحمِ صناديق الاقتراع لتتركَ بصمتَها وتُبرز مخططها التنموي القابل للتفعيل.

 

وهذه معضلتنا العربية الكبرى لا مناص لنا من تجاوزها، فنحن بحاجة ماسةٍ إلى عنصر الوضوح وتحمّل المسؤوليات بين الأحزاب والمواطنين، وليس نجاح الحزب هو نجاح أعضاءه وممثليه واغتناءهم وتنعّمهم بالخيرات والملذات، إنما هو نجاح برنامجه الانتخابي المسطّر، وقدرتهِ على انتشال المجتمع من براثن الفقر والتخلف.

إن تهيئ البيئة الصالحة للنهضة يفرض علينا تجنيد كل المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالشكل الذي يصب في مصلحة المواطن العربي
إن تهيئ البيئة الصالحة للنهضة يفرض علينا تجنيد كل المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالشكل الذي يصب في مصلحة المواطن العربي
 

عندما نصل إلى درجة الثقة الكاملة في المرافق العمومية العربية سنعترفُ حينئذ أننا في السكة الصحيحة لبناء مشروعنا العربي، فالشخص عندما يتوجه إلى إدارةٍ من الإدارات عليه أن يشعرَ بأنه في يدٍ أمينةٍ تخدمه وتلبّي مطلبه، وليس عالة يتم إقصاؤها والتخلص منها سريعا لسببٍ تافه، والثقة لا تُبنى في هذه الحالة إلا إذا كانت الإجراءات واضحة سهلة وبسيطة، وإلا ستسقطُ مع كثرة تعقيداتها التي تُنهكُ الموظف والمرتفق على حدّ سواء.

 

وليس المهم أن تكون إداراتنا في أعلى درجات الرقمية والحداثة، بل الأهم أن يخرج المرتفق منها راضياً على أدائها وخدماتها، سعيداً من حسن استقباله ولطف توديعه، والإدارات في الدول العربية عموما مازال يطغى عليها طابع الفوضى والمحسوبية وغياب المهنية، فتجد الموظفين لا يشتغلون في تخصصاتهم التي درسوها لسنوات طويلة، وبالتالي يشكل هذا الأمر تقليلاً من شأنهم وكفاءتهم وضغطاً رهيباً على نفسيتهم وحصراً لهم في زوايا الإهمال والنسيان، فكيف يُنتظرُ منهم العطاء والإنتاج، وتَقدم الإدارة رهينٌ بتحسن ظروف عامليها، وإصلاح بيئة اشتغالهم وتكوينهم وتنظيمهم بالشكل الذي يُعيد لهم اعتبارهم ويدفعهم إلى الإبداع والابتكار.

إن تهيئ البيئة الصالحة للنهضة يفرض علينا تجنيد كل المقومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالشكل الذي يصب في مصلحة المواطن العربي، والإصلاحُ ليس بالأمر المستحيل ولا يلزمنا بأن نتوفر مثلاً على إنسان خارق للعادة بمواصفات خيالية، فكل المجتمعات مُؤهلة للتحضر، وكل المشاكل قابلة للحل، وكل المعوّقات قابلة للتجاوز.

 

والإنسان العربي عندما يصطدم بحضارة الغرب فهو يحاول التعايش معها والانصهار في قوانينها ومبادئها، وينجحُ في ذلك إلى حدٍّ بعيد، وقد يساهم بدوره في تطعيمها بإنجازاته وابتكاراته المبهرة التي تُدهش حتى أصحاب الحضارة أنفسهم، فلسنا فاقدين للعقل ولا للفكر، ولا ينقصنا عضو من الأعضاء، بل أعتقد أن الإرادة الجادّة والنية الصادقة في إصلاح ما أفسده الدهر، والثقة في غدٍ أفضل والعمل ثم العمل بصدقٍ وغيرة، كل هذه الأشياء بمقدورها أن تُحقّق لنا المعجزات، والتاريخ شاهد على ذلك.