شعار قسم مدونات

لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا

blogs - الثورة

إن من عادة البشرية جمعاء أن تتفاعل مع الفعل أكثر منه من القول. فمثلا، عادة الدول والحكومات تبقى ساكنة أمام كلام شعوبها وتعطيهم المساحة في ذلك، لأنهم على ثقة أنها آراء وخزعبلات! لن تقدم ولن تأخر في تغيير حالهم في شيء – بالرغم إن ما وصل إليه الحال في دولنا العربية والإسلامية الآن، حتى القول أصبح من المحظورات ولو لم يمس السلطات، فلا حقوق تعبير ولا حقوق إنسان – ولكن ما إذا وصل الأمر إلى المساس في مبادئها وأفكارها قبل المساس حتى في أمنها وسياستها، وأدى هذا الأمر إلى بعض الحِراك الداخلي من تَكَوُّن جماعات معارِضة أو أصوات مُتفرِّقة مع بعض الأفعال والحركات حتى وإن كانت من قبل أفراد ولم تكن تنظيمات، تقوم هذه الأنظمة الفاسدة على قمع هؤلاء وردعهم وسَجِّهِم خلف القضبان!

وهذا الحراك أمر طبيعي في حد ذاته، لأنه إن لم يصاحب هذا الإيمان بالفكرة والعقيدة من أعمالٍ وحركةٍ لهذا الجسد حتى تُوَثِّق صِدْقِه مع ربه وذاته، فلن يكون لحامل هذه العقيدة فائدة ولا خير يُرتجى منه. وإن حامل العقيدة المُصاحبة للحِراك الجسدي يكون له من الله النَّصر والتَّمكين خاصة إذا لامس هذا الأمر دفاعاً عن حقوق المظلومين والمُسْتبعدين، أو دفاعا عن الإسلام والمسلمين وسنة آخر الأنبياء والمرسلين، ويقول ربي الله هو ناصر عباده المُسْتَخلفين.

 

يربط الله على قلوبٍ خالط خوفها الحق في أقوالها وأفعالها، وخروجها عن مَأْلوف طُغاتها، حتى يكون رِباطاً متيناً مُكَوِّنات صُنْعه من الإيمان والهداية، وذلك بِتَماسك وتَعاضُد المسلمين فيما بينهم، حتى يَزول هذا الخوف ويتحوَّل إلى قوة من رِباط الحب فيما بينهم وقوة إيمانهم بقضيتهم، فترتفع الرؤوس عالياً نحو السماء منتصرة على ذاتها وعلى عدوِّها، تاركةً خلفها من إنحنى على ركبتيه للمخلوق من غير الخالق، قال الله في كتابه العزيز: (وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا). وما أشبه حالهم بحالنا اليوم النَّقيض له كُلياً إذا ما أنزلنا هذا المفهوم وقارنَّاه على أرض الواقع!

ليس منا من يتمنى لابنه أن يكون كالشَّاة يَهُشَّها الرَّاعي بعصاه إما للتَّخْويف وإما للضَّرب حتى يُفرِّق بها الجُموع، أو أن يعيش في خُنوع خوفاً من أصوات من يُضْرَبون بها

وما لم يلتفت إليه الكثير منا، هو أن تقصيرنا في حق الله ورسوله، وما يكون لنا من سُكوت عن الحق فلا أَلْسن تَنْطُق ولا أَجْساد تتحرَّك، فنحن نقوم بتوريث أبناءنا وأحفادنا مرضِ قلوبنا وشتاتِ عقولنا إلى غير خالقها، فَيَأْلفوا الخُنوع وإنحناء الرؤوس والتسليم، حتى يأتي يوم فيقولون فيه هذا ما كان عليه آباءنا الأولون، كما قال عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ). ولن يخرج من دائرة الضعف والخزي هذه إلا من رَحِم ربي، وما أشبه هذا الحديث بحالنا اليوم من خذلان أنفسنا قبل غيرنا على تغاضي قول الحق!

وعندما تمر السنين على الأولاد والأحفاد، على ما هم عليه من مفهوم باطل، والتمسك بثقافات وعادات وتقاليد غيرنا، وعقيدة وتوحيد مُضَعْضَعٍ غير مُتَّزِن، حتى يكون من الصعوبة بمكان أن نغير هذا المفهوم، وإذا كان هناك بعضاً من الأمل فإن ذلك سيأخذ مِنَّا أجيالا على تغيير ما تربوا عليه من مفاهيم مَغْلوطة، وهذا هو ما عَقَلوه ونَفوه فتية الكهف إذ قالوا: (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، أي تجاوزنا الحق وحُدْنا عن فعل الصواب. وتفسير ذلك أنهم إذا بقوا على الإيمان بغير الله أو الإشراك به فسيكون بقاءهم في نفس دائرة الباطل والفساد والفكر الجاهلي في حرمان أنفسهم وشعوبهم على أن يعيشوا حياة كريمة في توحيد الله لا شريك له والذي فيه الكرامة والعزة وكسر قيود العبودية الظلماء والخروج إلى نور الحرية.

ليس منا من يتمنى لابنه أن يكون كالشَّاة يَهُشَّها الرَّاعي بعصاه إما للتَّخْويف وإما للضَّرب حتى يُفرِّق بها الجُموع، أو أن يعيش في خُنوع خوفاً من أصوات من يُضْرَبون بها. علينا أن نُفكر في مستقبل أبناءنا في أن نَزْرع في أنفسهم وتوريثهم المفهوم الصحيح للإسلام وما يتفرع منه من الثقة وعزة النفس والشجاعة والكرامة والحرية والخوف والرجاء فقط من رب العباد، وإعطاء حق الله ورسوله، ونصرة إخواننا المسلمين ولو بالقلب وهذا أضعف الإيمان، كما جاء عنه صلوات الله عليه: (من رأى منكم منكرًا فلْيغيرْه بيده فإن لم يستطعْ فليغيره بلسانه فإن لم يستطعْ فلْيغيرْه بقلبِه وذلك أضعفُ الإيمانِ).

فهذا ما قام به هؤلاء الفِتْيَة من توحيد للكلمة، والتمسك بالآخر، وعدم الرُّضوخ في اكتساب وتبنِّي أفكار لن تكن يوما لهم، وعدم الإيمان بما ينافي فطرتهم وقناعاتهم وعقيدتهم. فلجأوا إلى الكهف يدعون الله ويُصَبِّروا أنفسهم في الاسْتِئْناس به في وِحْدَتهم واستِمْداد قوتهم منه سبحانه. وما أشبه حالَهُم بحالنا اليوم من تحكم سلاطين وأنظمة الفساد في إجبار شعوبهم على تَبنِّي أفكارهم، وهَضْمِ حقوقِهِم وحرمانِهم من حريَّتِهم بالبحث وإلقاء القبض عليهم حتى في منامهم. وما هذا كله إلا لتطبيق وتنفيذ ما أمرهم به أسيادهم، فتُهَزُّ الأَذْناب رغبةً لإِرضائهم ورغم وضوح غِوايَتِهم، وظنهم بأن باب الجنة للخلود هو الانصياع لأسيادهم!، هم غافلون عما سيكون حالهم عند قولهم: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا).

لنكن رموزاً بين أَقرانِنا وذلك لن يأتي ولن يكون إلا بالعِلْم الذي هو نور لِبَصيرَتِنا، وحياة لِقُلوبنا، ونَماء لِعقولنا، وتطور لشعوبنا وأمتنا
لنكن رموزاً بين أَقرانِنا وذلك لن يأتي ولن يكون إلا بالعِلْم الذي هو نور لِبَصيرَتِنا، وحياة لِقُلوبنا، ونَماء لِعقولنا، وتطور لشعوبنا وأمتنا
 

وإذا نظرت إلى الصورة الكبيرة في صنيع أصحاب الكهف الذين رزقهم الله بالهداية وحسن المآل، لقلت أنهم اكتشفوا أصل الفقه الدعوي وهو الحفاظ على عقيدتهم السليمة، وعدم تعريضها للأذى ووأدها في مكانها من قبل ولادتها. آثروا الهروب والبقاء خِفية حتى يأتي فَرج الله ويزدادوا تَمْكينا وثَباتاً على ما هم عليه حتى يتسنى لهم الرجوع وإكمال ما بدأوه من دعوة وهداية لقومهم، وهذا الهروب لم يكن ضعفاً بل كان خياراً حكيماً وشجاعاً على مواجهة الظلم والاستبداد وألا يَخْضعوا إلا لخالقهم. وهذا للأسف عكس حال الكثير من شبابنا اليوم! ما يَلْبث أحدهم أن يتعلم القليل من أحكام الله وسنة نبيه، حتى يصبح من كبار المفتيين! فيتجرأ بإصدار أحكام الحلال والحرام والتكفير! والوقوف أمام الحكومة والسلطة على أنه يقول قول الحق أمام سلطان جائر! وفي ليلة وضحاها يُجتثَّ هذا الشخص من أرضه قبل بزوغ نوره!

إنه للأسف لم يفهم فقه أصحاب الكهف في الاستعداد والتسليم التام لله رب العالمين، حتى ينال التَمْكين والنصر على أعدائِه المُسَيْطرين. ألم يبقى الرسول وصحابته في جوف الليل سراً يتدارسون، ويقوم الرسول بزرع العقيدة والتوحيد في العقول والقلوب المتحجرة حتى أصبحت من اللِّين وروحٍ مسالمة، حتى مكَّنهم الله فأمرهم بعدها بالجهر بدعوتهم. فليكن لنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فبقائنا على قيد الحياة وعدم مواجهة الطغاة، أنْجع لنا حتى نقوم بنشر الدعوة ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر، ونقوم بتربية الأجيال على تمييز الحق من الباطل، والعزيمة والإرادة، والثقة بالنفس والثبات، والتأسيس الصحيح للعقيدة والتوحيد. لنكن رموزاً بين أَقرانِنا وذلك لن يأتي ولن يكون إلا بالعِلْم الذي هو نور لِبَصيرَتِنا، وحياة لِقُلوبنا، ونَماء لِعقولنا، وتطور لشعوبنا وأمتنا، وقبل ذلك كله الدُّعاء إلى خالق الكون بأن يكون عوناً لنا، وناصراً لِقَضيَّتنا، والعمل على تحسين نوايانا على ما نريد القيام به خالصاً لوجهه الكريم سبحانه.

 

فلينظر كل منا في نفسه، ويبدأ في اكتشاف ما لديه، فليس منا من ليس له قدرات أو قوة أو موهبة ما، لتعمل على تحريكها وتوظيفها من أجل أبنائك وذاتك، وحتى تكون لهم قدوة ورمزاً وذات مكانة بينهم وفي أمتهم، فيرثوا منك القدوة التي طالما تمنوا أن يتمثلوها أو أقلها يأخذوا منك ما يرفعوا بها شأنهم وتنير بصيرتهم، خير من أن يكونوا كالنَّعام فيضعوا رؤوسهم في التراب فلا يعلموا ما يجول حولهم ولا هم يريدون! أو كالشاة التي يتحكم بها راعيها، فيوجهها إلى مكان غذائها ومرعاها، فتأكل وترجع إلى مباتها حتى تعيد الكرة مرة أخرى في اليوم التالي، أو يوجهها إلى مماتها وهي لا حول لها ولا قوة، فيتم التَّغَنِّي بِذَبْحها وسَلْخِها، ثم طَهْوها على نار هادئة، فيأكلها راعيها ومن معه مع أصوات ضحك عالية متعالية!

فهذا استطراد لفكر أصحاب الكهف وما كانوا يأملون في تحقيقه، والبعد عن مخاوف مستقبلهم ومستقبل الأجيال من بعدهم. ولو أنهم صدَّقوا وآمنوا وخَنَعوا لصوت الباطل، توارثت صفاتهم الأجيال من بعدهم، وإذا ما تَلَقُّوا صوت الحق في عقولهم وقلوبهم، ضَمِنوا لأنفسهم وللأجيال اللاَّحقة عزة النفس والكرامة وضمان فلاح الدنيا والآخرة.