كُنّا قد تحدّثنا في التدوينة السّابقة عن هربرت صموئيل كأوّل مندوب سام، عن مارك سايكس وصندوق استكشاف فلسطين، وعن علاقة فرنسا والدّول الاستعماريّة بتصريح بلفور. وأخيرًا دخول أمريكا على خطّ الحرب العالميّة الأولى 1917 ودورها في دعم الصّهيونيّة. في هذه التدوينة، سنجيب على الأسئلة التّالية:
– كيف كان الطّريق إلى تصريح بلفور؟ وما مدى أهمّيّته؟
– كيف تمّ التّرتيب لاستخراجه بهذه الصّورة؟
– لماذا كانت موافقة أمريكا مهمّة على هذا التّصريح؟
– لماذا لا نستطيع مقاضاة بريطانيا على تصريح بلفور؟
– وما هو النّصّ الصّحيح للتّصريح؟
كان تحالف الصّهيونيّة مع القوى العظمى (بريطانيا وأمريكا وفرنسا) إلى جانب الفاتيكان في ذلك الوقت أساسيّا لإصدار بريطانيا تصريح بلفور. يجب دراسة قضيّتنا جيّدا وكيفيّة تحوّلها لصدور تصريح بلفور من 100 سنة، ومن الممكن أن نفهم هذا بوضوح عند دراسة دور مارك سايكس ووضعه تحت المجهر (وهذا ما تمّ توضيحه في الحلقة السّابقة)، ونتأكّد كيف كانت الحكومة البريطانيّة تحضّر لإصدار التّصريح بغضّ النّظر عن وجود وايزمان كشخص أو غيره من الصّهاينة أو سوكولو أو غيرهم، فقد كان التّصريح سيخرج حتما. فالصّهيونيّة لم تكن تلعب دور الضّغط على الحكومة البريطانيّة لاستصدار التّصريح، وإنّما الإمبراطوريّة الاستعماريّة البريطانيّة هي التّي استخدمت الحركة الصّهيونيّة كحليف وأداة لتحقيق الأهداف التّي تلاقت بينهم.
لماذا لا نستطيع مقاضاة بريطانيا على تصريح بلفور؟ لأنّ هذا النّصّ كُتب بماء الذّهب، حيث تمّت دراسته بعناية من قبل دبلوماسيّين محترفين جدّا، ولا تستطيع أيّ جهة رفع قضيّة على بريطانيا حوله |
الصّهاينة، ومنذ 1799 يحاولون أن يجدوا تصريحا سياسيّا لقوّة كبيرة تتبنّى فكرة استعمار فلسطين، وبلفور. كان يقول: "أنا أريد أن أساعد وأبذل قصارى جهدي لوضع الصّهاينة في فلسطين"، الذّي أدّى إلى معاناتنا إلى اليوم، ولاحقا وُضع تصريح بلفور ضمن صكّ الانتداب وصادقت عليه عصبة الأمم، التّي كانت تضمّ كلّ الدّول الاستعماريّة في ذلك الوقت (أمريكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا) وصار جزءا من القانون الدّولي لاستعمار فلسطين واستيطانها من قبل الصّهاينة، وتحويلها إلى وطن قومي لليهود أو للصّهاينة بالرّغم من أنّ الفلسطينيّين والمسيحيّين والعرب كانوا الأغلبيّة وبالتّالي نحن مهتمّون كثيرا بهذا التّصريح إلى الآن. والصّهيونيّة تعتبره أهمّ حدث سياسيّ في تاريخها.
في عام 1917، طُلبت استشارة الرّئيس الأمريكي وودرو وريلسون في نصّ تصريح بلفور خلال شهريْ سبتمبر وأكتوبر من نفس السّنة، بمعنى عرضوا عليه النّصّ والفكرة، فردّ الرّئيس الأمريكي أنّ الوقت غير مناسب للإعلان، ولكن بعد ذلك وافق عليه وبعث برقيّة إلى وزارة الخارجيّة البريطانيّة أي لآرثر بلفور يوافق على نصّ التّصريح وأُصدر قبل الإعلان عنه يوم 17 أكتوبر 1917. وتمّ تسجيل هذا في محضر وبعد ذلك طلب وودرو ويلسون أن تبقى هذه المعلومة سرّيّة، لكن آرثر بلفور أعلم المجلس الحربي آنذاك بالموضوع وظلّ سرّا حتّى انكشفت وثائق الأرشيف البريطاني عند فتحه للصّحافة لأوّل مرة بعد 50 عاما من إصدار التّصريح. وفي 31 أكتوبر 1917 قرّر مجلس الوزراء البريطاني اعتماد النّصّ النّهائيّ، وكلّفوا آرثر بلفور أن يصدر هذا التّصريح باسم الحكومة البريطانيّة.
لأنّ في تلك الفترة كانت قد نشأت الحرب العالميّة، وأمريكا ليس فيها دمار مثل أوروبا، وليست مُتضرّرة منها، وبالتّالي كانت هي الدّولة الغنيّة وبريطانيا لم تكن لتتصرّف وحدها بالموضوع، فهي واحدة من خمس دول (أمريكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا واليابان) في عصبة الأمم آنذاك إلى حدود 1922. ثمّ لاحقا في عام 1942 بدأت أمريكا في الظّهور كقوّة عظمى، حيث غيّرت الصّهيونيّة وجهتها إليها بعد أفول نجم بريطانيا.
لأنّ هذا النّصّ كُتب بماء الذّهب، حيث تمّت دراسته بعناية من قبل دبلوماسيّين محترفين جدّا، ولا تستطيع أيّ جهة رفع قضيّة على بريطانيا حوله، لذلك لا يوجد سندا قانونيّا ضدّه. فالسّند القانوني الذّي يمكن مقاضاتها عليه هو الانتداب البريطاني الاستعماري فقط وليس على تصريح بلفور.
المخلص آرثر بلفور.
ملحوظة: العرب لم يعلموا بذلك التصريح حتّى يوم 9 نوفمبر 1917.
في التدوينة القادمة، سنتحدّث عن: الأفكار التّي احتوى عليها نصّ التّصريح، عن ردّة فعل الفلسطينيّين، وأيضًا كيف حاولت بريطانيا شراء الأراضي وحيلها في ذلك، وأخيرًا سنتحدّث عن دور هربرت صموئيل في تطبيق تصريح بلفور على أرض الواقع.