التونسيون عاشوا الويلات والظلم من طرف الاستعمار الفرنسي الجاثم على صدر الضعفاء لعدة عقود طويلة والسالب لحريتهم ولقمة عيشهم والأدهى والأمران هذا الاستعمار رغم رحيله منذ 60 سنة تقريبا ترك جرحا عميقا لايزال ينزف لحد اليوم. كان اعتقاد التونسيون أن بخروج المستعمر الفرنسي سيسترجع أرضه ويصبح المتحكم في ثرواته وتتحول تونس لدولة غنية ومتقدمة وذات سيادة. رغم التحولات العديدة التي شهدتها البلاد في عدة مجالات، ظل المواطن يبحث عن كرامته المسلوبة وحريته المفقودة، تخلص من مستعمر أجنبي ليجد نفسه في قبضة أخر من أبناء وطنه أين بقيت البلاد تحت راية الحزب الواحد والصوت الواحد، غابت التعددية السياسية والفكرية وظلت الحقيقة غائبة ومخفية ومحكوم عليها بالإعدام.
فتيل النار الذي أشعله ابن مدينة سيدي بوزيد لم يمر مرور الكرام بل تحول لوقود وشرارة ثورة قادها التونسيون بمختلف التوجهات السياسية والفكرية والنقابية رغم غياب لقيادة واضحة وفكر وتوجه سياسي واضح لكن كانت قادرة على الإطاحة بنظام مستبد أرهق التونسيون وأراهم الويلات والجحيم لسنين طويلة.
ملف الطاقة كان الهاجس الرئيسي لأغلبية الشعب التونسي اعتقادا منه أن تونس دولة تزخر بأبار كثيرة من الذهب الأسود على غراردول المنطقة المغاربية والخليجية |
بهروب المخلوع كانت الرغبة الأولى للتونسيين هي كشف المستور على ملفات الماضي وفتح الجروح القديمة ولئن كانت ذكرى قاسية على الكثير من الضحايا وعائلاتهم أولا وحتى على بقية الشعب التونسي ثانيا ولهذا الغرض تم تأسيس هيئة دستورية حملت مسمى هيئة الحقيقة والكرامة والعدالة الانتقالية، اسم جميل ومعبر لأن في تونس دفنت الحقيقة وسلبت الكرامة تحت سقف قصر العدالة.
تم تأسيس الهيئة وانتخاب أعضائها في عهد حكومة الترويكا الاولى وفترة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، لقيت الهيئة خلال تلك الفترة كل التشجيع والمساعدة من كل مؤسسات الدولة وأيضا الشعب أين ازدحمت مقراتها المركزية والفرعية بطالبي استرداد حقوقهم ومحاسبة مجرمي العهد القديم ولفتح تاريخ جديد لتونس يكون المستقبل ناصع البياض لا مكان فيه لدموع الثكالى والمظلومين.
تغير الخارطة السياسية في تونس منذ أربعة سنوات بتولي الباجي القائد السبسي دواليب الحكم بمعية حزبه نداء تونس تغيرت معه عدة معطيات فأصبحت الهيئة ورئيستها بن سدرين في واجهة النقد العنيف من مراكز الحكم وذلك للتاريخ القديم بين سهام بن سدرين وحركة نداء تونس سليلة حزب التجمع الذي كانت رئيسة الهيئة شوكة في حلق بن على وصداع دائم له ونظامه.
أصبحت البلاد تعيش على مد وجزر بين هيئة تبحث عن الحقيقة ومنظومة حكم تريد طمس معالم الماضي الملون بآهات وعذابات الذات البشرية من خلال حملات تشويه يكون منبعها المنابر الإعلامية الموالية للنظام. كل يوم يمر تكثر فيه الهجمات والمحاولات لعرقلة الهيئة إن لم نقل أن هنالك رغبة لإنهاء عملها، فكلما تحدثت بن سدرين عن ماضي الاستبداد والدكتاتورية كلما زاد حجم الضغوطات لإضعاف المرأة الحديدية.

ظلت تونس منذ استقلالها ودخولها حقبة جديدة تحت قيادة الحبيب بورقيبة ومن بعده تلميذه النجيب زين العابدين بن علي مثل الكتاب المغلق ، كل من تجرأ على تصفحه سيكون مصيره الاعتقال والتهجير، إلا أن مع ثورة جانفي 2011 ذهب الخوف من الأنظمة الحاكمة وارتفع سقف المطالب وتكونت عدة حملات شعبية كان لشارع الثورة حاليا والحبيب بورقيبة سابقا مسرحا لها ومن أهم هذه الحملات حملة "وينو البترول".
ملف الطاقة كان الهاجس الرئيسي لأغلبية الشعب التونسي اعتقادا منه أن تونس دولة تزخر بأبار كثيرة من الذهب الأسود على غراردول المنطقة المغاربية والخليجية. في هذا السياق أطلقت رئيسة الهيئة قنبلة موقوتة بعد اطلاعها على الأرشيف التونسي الموجود لدى الدولة الفرنسية والذي كان يكشف خفايا عملية تسليم السلطة للجانب التونسي. هذه الوثائق موجودة على موقع هيئة الحقيقة والكرامة والمنشورة للعموم لم تذهب بعيدا على ما كان يجول بخاطر المواطنين التونسيين بل أكدته وثيقة الاستقلال هذه المرة بالأرقام والحجج معتبرة أن تونس دولة نفطية كغيرها من دول المنطقة لكن لا سلطة لها على ثرواتها المستحوذة عليها كبرى الشركات الفرنسية وبعقود طويلة المدى.
الغريب في الأمر ما أعتبره البعض أن ما قامت به بن سدرين هو خرق وضرب للعلاقات التونسية الفرنسية وأن هذه الوثائق كاذبة وغير دقيقة رغم تأكيدات الجانب الفرنسي على صحتها، فتجند أشباه المؤرخين لدحض ما كشفته الهيئة وسارعوا في تبرئة زعيمهم المفدى بورقيبة وتقديم فروض الطاعة والغفران للجانب الفرنسي في ضرب كامل للسيادة الوطنية وخيانة دماء شهداء الحركة الوطنية. هيئة الحقيقة والكرامة ظلت السلاح الوحيد في وجه الثورة المضادة والمطبعين مع الفساد والاستبداد لكن الخناق والمحاصرة تطورت بعد أن بقيت بن سدرين اللاعب الوحيد المحسوب على ثورة الجياع بعد أن تاه رفاق الدرب عن طريق الصواب بين مطبع مع النظام القديم وثورجي أكثر من اللزوم.
هل ستصمد بن سدرين وهيئتها أم سندق آخر المسامير على نعش الثورة.؟