النص والنص التوراتي تحديداً لعب الدور الأكبر في رسم وكتابة تاريخ الشرق وشرقنا العربي فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غربية لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة من المرويات التوراتية .التي كان من أهم نتائجها " اختلاق إسرائيل القديمة " أهم ما في هذا الكتاب أنه يقلب الصورة رأساً على عقب، وهو سباحة ضد تيار الباحثين من مستشرقين وباحثين وعلماء آثار في الكتاب المقدس وتطويع نتائج أبحاثهم لتزييف التاريخ وخدمة للمصالح السياسية . وتجاهل الحقائق لإسكات التاريخ الفلسطيني. يضم هذا الكتاب سلسلة من الدراسات.. كانت نتيجة قراءات معمقة في كتب بعض علماء الآثار الغربيين المنشورة عن نتائج التنقيبات في فلسطين.
يقول الكاتب: إن رصد النزعة الاستشراقية في حقل علم الآثار يمكن أن يكشف عن أدلة وآلية العقلية الاستشراقية بصورة أشد وضوحًا من تجلياتها في الحقول الأخرى، وبخاصة حين تصل بالاستشراق إلى ذروته، فتعلن بلا مواربة أن غاية المعرفة هي الاستيلاء على الأرض. ويبرز الباحث كيف كانت نتائج كل التنقيبات التي جرت في فلسطين بواسطة عالمة الآثار "كاثلينن كينون"، حيث شككت في صحة روايات التوراة المترجمة – فهذه الباحثة التي نقبت حتى العام 1967 في فلسطين مشبعة بأفكار مسبقة مصدرها التوراة، وجدت أن كل نتائج تنقيباتها تدحض الادعاءات المسبقة التي كان آثاريون تقليديون قد نشروها، وأعلنت ذلك ببساطة، إلا أنها من جانب آخر لم ترد أن تصدم المشاعر والأهداف، أو قل: الأوهام التي تحتشد بها معاهد البحث التوراتية والجمهور العريض من الصهاينة الذي نشأ معتمدًا على أساطير أوائل المنقبين.
ويقول وإن علم الآثار التوراتي عجز عن إيجاد شواهد تدعم افتراضاته المسبقة، وهذا ما قررته (كينون) في محاضراتها التي جمعتها في كتاب تحت عنوان "التوراة والمكتشفات الأثرية الحديثة، وهذا ما يعني أو ما يقودنا إلى نتائج خطيرة وهي: انهيار الصرح الزائف الذي بناه علم الآثار التوراتي يعني انهيار أحد مرتكزات الكيان الاستعماري في فلسطين في الذهنية الغربية العامة.
قضية علماء الآثار، وبالأخص قضية مقتل د.جلوك، تقع في قلب الصراع بين باحثين وعسكريين وسياسيين وبين علماء الآثار الذين بدأت تضمحل أمام أعينهم تواريخ الروايات التوراتية في ضوء الآثار المادية الفلسطينية |
ويسلط الكاتب الضوء على قضية هامة، وهي: جريمة اغتيال عالم الآثار الأمريكي د.ألبرت جلوك في بيرزيت في عام 1992م، " وإدوارد جلوك" عالم آثار ترأس قسم الآثار في جامعة بيرزيت، وأسس معهد الآثار الفلسطيني الأول من نوعه في الوطن العربي، وأشار الكاتب إلى دور الجيش الإسرائيلي تحديدًا في عملية الاغتيال، وكانت رسالة من سلطات الاحتلال استهدفت بث الرعب في نفوس الأساتذة الأجانب العاملين في جامعة بيرزيت، وضرب مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وعرقلة تنمية قدرات فلسطينية. في هذا الحقل المعرفي، هدف الاغتيال إلى معاقبة د.جلوك على مواقفه المؤيدة للحقوق الفلسطينية، والقضاء على مشروعه الذي كان يستعد له، أي نشر نتائج أبحاثه على قائمة التنقيب الميداني في المواقع الفلسطينية.
وجاء اغتيال د.جلوك بمثابة حرب خفية مرة، ومعلنة مرة أخرى، وتعني الدفاع عن الخطاب التوراتي الذي بدأ يظهر زيفه، ويقوض مزاعمه عدد متزايد من العلماء الغربيين بخاصة. وفي نفس السياق قامت سلطات الاحتلال الصهيوني في عام 1967م بإيقاف عالمة الآثار البريطانية "كاثيلن كينون" عن العمل بعد أن أعلنت نتائج تنقيباتها عن وقائع تدحض مزاعم الخطاب التوراتي …وهذا ما دفع بالأوساط التوراتية لأن تقود حروبًا متواصلة ضد كل أستاذ أو عالم آثار في العالم يكشف التضليل الذي تتعمده الصهيونية لاختلاق صلة لها ولحركتها الاستعمارية بالأرض الفلسطينية.
وأشهر من تعرض للاضطهاد والطرد من مناصبه أيضًا هو العالم الأمريكي " توماس تومسون " صاحب كتاب: (التوراة في التاريخ، كيف يخلق الكتَّاب ماضيًا؟ 1994) وهو اضطهاد اضطره إلى التحول إلى عامل يدوي يعمل في بناء جدران العمارات، ليكسب لقمة عيشه، قبل أن تقبله كلية كاثوليكية في القدس، ثم ينهي عقده، وهكذا إلى أن انتهى به المطاف في منصب أستاذ في جامعة في الدانمرك، ليتمكن من مواصلة أبحاثه.
وقضية علماء الآثار، وبالأخص قضية مقتل د.جلوك، تقع في قلب الصراع بين باحثين وعسكريين وسياسيين وبين علماء الآثار الذين بدأت تضمحل أمام أعينهم تواريخ الروايات التوراتية في ضوء الآثار المادية الفلسطينية. وتبدأ بالهوس التوراتي الذي رسم خريطة لفلسطين نابعة من التصورات اللاهوتية. والتي ظل يفرضها أكثر من قرن من التنقيب في فلسطين ، حيث كان هذا الهدف هو من أهم الأهداف المعلنة على ألسنة دعاة صندوق استكشاف فلسطين منذ إنشائه سنة 1865م. وكانت بريطانيا ممثلة بالوزارة الحربية هي التي رعت الصندوق، وهي التي تحمست لمشروعه، وتعزز لديها ذلك مع افتتاح قناة السويس عام 1869م، والاحتلال البريطاني لمصر 1882م، تعززت أهمية فلسطين الاستراتيجية تعزيزًا بالغًا، وتوَّجت بالتغلغل البريطاني في ديسمبر من العام 1917م، حيث قاد الجنرال أدموند اللنبي موكب جيشه المنتصر في القدس بعد معركة دامية في تلال فلسطين الشرقية.
وينبّه الكاتب إلى جريمة أخرى دبرها الإسرائيليون لعالم آثار يدعى د.لاب: حيث كان له موقف ثابت من كشف تزييف معاهد البحث التوراتي والتشويه الذي ألحقه بآثار فلسطين وتاريخها، والذي ترافق مع دحض كينون لكثير من التصورات التي فرضت على التاريخ الفلسطيني ….وكان من نتيجة أبحاثه واحتجاجاته أثر بالغ في اتخاذ منظمة اليونسكو وقرارها بطرد إسرائيل من عضويتها، بعد أن أدانتها لقيامها بحفريات غير مشروعة في أرض محتلة، وتدميرها المتعمد للآثار الفلسطينية، مثل إزالة حي كامل هو حيّ المغاربة في القدس.
وقد تم إغراق "د.بول لاب" على شاطئ قبرص الشمالي، وهو السباح الماهر عمدًا، كعقاب له على مواقفه هذه عام 1970م، ولفتت هذه الجريمة – شأنها شأن الجرائم الصهيونية ضد العلم والعلماء _الأنظار إلى عمق الأثر الفكري والسياسي لعلم الآثار الفلسطيني الذي بدأ يظهر على أيدي علماء تجردوا من التحيز والهوس الصهيوني اللذين عرفهما هذا الحقل طيلة قرن ونصف القرن.
ويعود الكاتب ليتحدث عن د.جلوك فيقول عنه: " لم يكن هذا العالم مؤسس أول برنامج دراسي وميداني للآثار الفلسطينية في جامعة بيرزيت فقط، بل وضرب مثلا حين تحول من خلال التدريس مدة 16 عامًا عن المهمة الأصلية التي جاء من أجلها، أي تعزيز علم الآثار التوراتي إلى مهمة تأسيس البديل الحقيقي، أي علم الآثار الفلسطيني، وتدريب طلبته الفلسطينيين من أجل أن يواصلوا بناء صرح هذا العلم …وبدأ عمل جلوك يصب لصالح إعادة اكتشاف فلسطين التي طمس تاريخها الدجالون الصهاينة، وألصقوا بها تاريخًا غريبًا عنها هو تاريخ لــ إسرائيل قديمة مختلفة على حد تعبير" كيث ويتلام" الذي كرس كتابًا فصَّل فيه الآليات التي استخدمها التوراتيون لتلفيق تاريخ قديم لإسرائيل، وإخراس التاريخ الفلسطيني تبريرًا لقيام كيان استعماري اتخذ له اسم هذه "الإسرائيل" المختلفة زاعمًا أنه وريثها الشرعي، وهو كلام العسكري والسياسي وعالم الآثار، في سباق محموم للاستيلاء على الأرض الفلسطينية.
وبالاستيلاء على التاريخ والماضي ونسبته للمستعمرين، أو لمن يزعمون أنهم أسلافهم، والاستيلاء على الأرض وفق استراتيجية تقع في صلب المشروع الصهيوني التي تقوم على إبادة الفلسطينيين في أي مكان يكونون فيه لسبب بسيط هو أن وجودهم في الماضي والحاضر هو الحقيقة الصلبة التي تغدو معها المزاعم الصهيونية هراء. ويتمثل هذا الهدف في سيرة حياة أبرز شخصيات هؤلاء المستعمرين التي جمعت بين النشاط العسكري والسياسي والآثاري مثل: "يغائيل يادين" و"موشى ديان" و"أميردوري" الجنرال الذي ترأسّ ما تسمى " دائرة الآثار الإسرائيلية".
وأخيرًا يورد الكاتب آخر ما كتبه د.جلوك في العام 1999، أي قبل اغتياله بسنتين، حيث يقول: " لقد عملت أربع قوى على صياغة صورة فلسطين المهيمنة اليوم":
الأولى: هو الموروث التوراتي كما نشرته الأمم الغربية المسيحية، لتربي شبابها في إطار التراث اليهودي المسيحي، والذي سيشكل قضية فلسطين المعتمدة في العالم "الأنجلو ساكسوني" والأوروبي.
والثانية: هي التنافس الأوروبي على بسط السيطرة على ساحل شرق المتوسط عامة، وعلى فلسطين خاصة، ذلك التنافس الذي أتنتج معرفة متوافرة بالأرض لخدمة الحاجات العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية، ثم استخدام البيانات المتجمعة لهذه الغاية في توسيع القضية المعتمدة سلفًا.
والثالثة: هي تهجير وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين سكان البلد الأصلين بشكل مدروس من أجل توفير وطن لليهود.. وهو ما نتج عنه رفض المثقفين الفلسطينيين للمؤامرة على فلسطين المعتمدة من قبل الغرب، والتي دعت إليها الصهيونية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.