"لا شيء حقيقي إلا الكَذِب"
– أفراح القبة، نجيب محفوظ.
إلى صديقي الكاتب الرائع.. هذا جزء من حديث لم ينتهي. مُذ جمعتنا تلك الصدفة، خارج أسوار مارك الزرقاء، في محطة القطار بالرباط، واحتسينا كؤوس البن المعتق، نخبا لصداقة ولدت من رحم افتراضي، ونحن صديقان كأن دهرا من الخيبات جمعنا لحظتها، وعمدنا بتلك المرارة التي تسكن الحلق. حكى لي في تلك الجلسة حكايته الدامية، ببحة حزينة مفجوعة، مسموعة النشيج، ومتقطعة الأنفاس حزنًا على حبٍ مغدور، سفك دمه بلا هوادة.. مُذ تلك الصدفة التي خرجت من جراب القدر، بكل بهاءٍ، ونحن في تواصل معشق بنقاشات لا تنتهي، حول الأدب وقضاياه، واقع الصحافة والثقافة في المغرب، وغيرها من إشكاليات حياة شابين يعيشان في بلد تغلي مراجله.
صار مَجِيد، محجا لي ومزارًا كلما زرت مدينة الخنوع تلك، كأنه ذياك الجانب المضيء من عتمتها القميئة، إذ لا تكتمل الرباط في عيني إلا به، وكيف لا وهو قامة أدبية سامقة، تمشي الهوينا بثبات، مخترقة متاريس التهميش والحسابات الضيقة!، كان يومها قادما من جلسة أدبية في إحدى المدن، فكانت محطة القطار تلك مكان اللقاء. دلفنا إحدى مقاهي شارع محمد الخامس، المرامية على أرصفته، وفِي خدم الحديث، الذي قادتنا لججه الهادرة، نحو شواطئ مارك الفيروزية، فحكى لي قصة حقيقية لشاب وشابة، من أشهر رواد العالم الأزرق، فهاكم الحكاية من البداية:

حين يلج عالم مارك، يستحيل إلى قطرة ماء شفافة، رقيقة الحاشية، عذبة زلالا، يتماهى مع زرقة الفيس، بكل أعضائه ليصبح رشاحة إلكترونية بكل طواعيته، ها هو في دردشته مع حسناء رعبوب يصير أحن من أم، وأعشق من قيس، ومع مناضل أكثر راديكالية من أزيز الرصاص، ومع صورة لعائلة فقيرة، ينتقل من الهزل مع صديقه الذي يعرفه حد الشفافية، إلى قمة الغيظ والحزن، يمغنطه في تعليق يسب فيه الطبقية والنظام وأزلامه، وهكذا، يتلون كحرباء، بقدرة شيطانية على تلفع روحٍ غير روحه، حتى يخرج من عالم الفيس، ومن تلك العبودية الطوعية، ويعود هو هو، بكامل إنسانيته، شاب في عنفوان شبابه، يمتهن بيع كل شيء، الوهم والحب والمبدأ، وحتى الأحلام، له قدرة على تسويقها في سوق الحب لمراهقة أوقدت شهوته، وألهب دماغها بأحلامه التي يرسمها بقلم رصاص، سرعان ما سينمحي بصرير السرير، وتأوهات الرغبة، بعد أول ممارسة حب..
غريب هذا العالم المثالي هنا في الفيس بوك، غريب حد التعجب، فأن تلجه معناه أنك تفتح كتابًا من تلك الكتب القديمة الغرائبية، كحكايا سندباد، أو ألف ليلة وليلة.. فها هي ذي أخرى، مدونة فذة، تتقمص شخصية دكتورة نفسانية، تخط تدويناتها بيراع ينفذ نحو النفس البشرية عميقا، تشرح كنها وتفك طلاسمها بآراء علمية تارة، وأخرى استنبطتها من كتاب ومختصين في ذلك الشأن، يشعل صفحتها قنديل تنوير مجاني، يهتدي به الناس الافتراضيون ممن جعلوا صفحتها ديرا ومعتكفًا، بحثا عن نور للهدى، علهم يوقنون..
اسم وصورة، بل صور تتغنج متعلقة في حائط صفحتها النوراني، تعاليق ولايكات، مد وجزر في النقاشات، وتأرجح في غير ذلك من أشياء أخر.. لكن لا أحد فيمن يقرأ تلك القزحيات التي تعري النفس البشرية، أمام مرايا حائطها الأزرق، استطاع أن يعرف تلك الروح التي تسكن تلك التي تختفي وراء الحاسوب، تَرَى ولا تُرَى كأنها الغيب على رأي درويش، فمن هي يا ترى؟!
وهل صرنا اليوم مجرد أرقام لا روح فيها، في معادلات مارك الخوارزمية؟!.. يأتي من هب ودب ويجرنا وراء قلمه إلى حيث لا ندري، وهو يدري! إنه عالم قميء مقيت بكل تجلياته، بكل الكتبة الكذبة التي تسكنه، وبكل شياطينه الملائكيين، وملائكته الشياطين، ولا أستثني منهم أحدا، حتى الغبي العاجز بأصابع اللايكات التي يجمجم بها هنا وهناك.. إن صادف وأن تقاطعت أحرفي هذه مع أحد ما، في مكان ما، فذلك ليس صدفة، بل هي الحقيقة الصارخة ملء فاهها المخنوق..