شعار قسم مدونات

المجاملة.. سلوك لتلطيف العلاقات أم دبلوماسية يمليها الواقع؟

blogs حوار

ترتبط مجتمعاتنا العربية بنسيج علائقي متين مليء بالولاءات الفردية والقرابات البينية يمتد أثرها حتى داخل البيئة العملية مما يُجْبِرُ الكثيرين قصد استدامة الود والابقاء على العلاقات التعامل بحذر وروية مع نظرائهم بواسطة اظهار مشاعر الاحترام والتقدير ومكامن الغبطة والرضى. 

لا يختلف اثنان في كون المجاملة لون من الاتيكيت اللفظي تتقنه المجتمعات الشرقية وتحبذه سلوكا يهندس علاقاتها الاجتماعية فهي دليل تحضًرِها وتعبر عن مدى تطورها الثقافي وتمدنها المجتمعي سيما وأنها تضفي للحديث طلاوة تبعث بطنين الرضى والاطمئنان في أذن من نجاملهم كما أنها مجموعة شحن قوية تُرًطِبُ أجواء الحياة المعنوية في البيت وفي العمل وفي الشارع أيضا وهي أسرع وسيلة للوصول إلى قلوب من نحب لذا فان لهذا الاتيكيت قواعد وأصول يحسن تدارُكَها وفهمها من مثل الامتداح في حدود المعقول عدم المبالغة في الثناء الابتعاد عن التملق أو الافراط في ذكر المحاسن والفضائل فكما ان الإنسان ذكرا كان أو أنثى يحتاج للمديح والثناء فان المجاملة تساعد على التميز والتطور تماما كما ينتقي المعلم كلمات الثناء كدافع وحافز للإبداع مع متعلميه.

لكن قد ينقلب هذه الفن اللفظي إذا زاد عن اللزوم كذبا بتحوله إلى عادة يومية روتينية على أنه يمكن الاقرار ان معظم الناس لا تفهم معناه وعادة ما يحدث تداخل في المعاني بينه وبين العديد من الصفات السيئة. فهل تعد المجاملة اذن نوع من الدبلوماسية نضطر اليها كلما دعت الحاجة قصد الحفاظ على مكانتنا وموقعنا في اعين من نجاملهم أم هي لون من الخداع والزيف يجب الاقلاع عنه؟

قد يعيش المجامل ملكا بين الناس كونه محبوبا حلو اللسان لا يذكر الأخرين بسوء غير أنه في الوقت ذاته لا يمتلك الشجاعة لقول كلمة الحق والصدق التي تحتمل الإيجاب أو السلب في سلوك من يجامل

حقيقة ثمة أمور كثيرة في الحياة نجد ذواتنا فيها مجبرين لخوض غمارها وإلا كنا محط انتقاد فنلجأ للمجاملة مكرهين إما لعوز او حاجة او مطلب اعتقادا منا ان معظم الأشخاص يحبون أن يجاملهم أحد سيما الذين يشغلون مناصب رفيعة او من نطمع في افاداتهم ومعارفهم المهنية اومن يمتلكون وساطات وسلطة في تحقيق مطالبنا الاجتماعية والوظيفية فهي أقوى سلاح يوجه اليهم لا ضددهم ظنا منا ان لا أحد يستطيع مقاومتها مهما كان قوياً فالمجاملات تجعل القوي ضعيفاً لأنها ببساطة تعترف بهذه القوة لكن بصورة ذكية غير أن الاعتياد على هكذا السلوك بشكل يومي وروتيني يعد نوعاً من النفاق المحموم بالكذب والخداع الذي يتخذ الغاية هدفا مهما كان شكل الوسيلة.

تستوقفنا نماذج متعددة في حياتنا المهنية والوظيفية لأشخاص جعلوا من المجاملة وسيلة لصعودهم وترقيتهم ينتابنا الذهول أحيانا لشخص ما نعرف مستواه حين ينتهي إلى مسامعنا أنه أصبح مديرا او رئيسا او تمت ترقيته او تعيينه في منصب عال رغم علمنا أن إمكاناته ضعيفة لكن سرعان ما يزول الاستغراب حين نتذكر ماضيه في مدح مرؤوسيه والافراط في الثناء عليهم فبرؤية الكثيرين أن هذا الشخص الذي يمتهر المجاملة على غير وجه حق هو في الاساس لا يحترم نفسه بل هو مريض نفسياً اختار وسيلة سهلة للوصول إلى مبتغاه بفقده لاحترام ذاته فالمجاملة الكاذبة سبيل المكيافليين في الوصول لأهدافهم من دون تعب او كلل ومع هذا تزدحم بمثل هؤلاء الصفوف الأمامية للمؤسسات المدنية والادارات العامة وحتى الاحزاب السياسية في عالمنا العربي.

قد يعيش المجامل ملكا بين الناس كونه محبوبا حلو اللسان لا يذكر الآخرين بسوء غير أنه في الوقت ذاته لا يمتلك الشجاعة لقول كلمة الحق والصدق التي تحتمل الايجاب او السلب في سلوك من يجامل لذا مهما علا شأنه سيُفْضح أمره بلا شك كما فُضِحَ أمر الشاب الفقير الذي جعل منه الكاتب المصري احسان عبد القدوس في قصته أنا لا أكذب ولكن أتجمل قبل ان تتحول إلى فيلم بطلا من ورق بعد ان ادعى الغنى وتنكًرَ أمام محبوبته المنحدرة من عائلة غنية. لتبتعد عنه أخيرا وتخبره بأنها لن تستطيع أن تكمل معه الارتباط في مشهد تراجيدي حزين ولم تشفع صراحته المتأخرة في مخاطبة ودها وتذكيرها بماضيهما الجميل فيتفاجأ بقرارها ويحاول أن يبرر لها بأن ما فعله أمر يفعله الجميع رجالا ونساء فهو لم يكذب عليها بمشاعره ولكنه كان يتجمل ويحاول تحسين صورته ليس إلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.