وسط أغلال المادية والمجتمعات الأكثر بيروقراطية تتمدد المادة لتطغى على الروح في كثير من القضايا والمفاهيم المجتمعية، قدم المفكر علي عزت بيجوفيتش نقدًا بناءً لتلك المفاهيم المادية المغلوطة في منهجيتها وناقشها في أطروحة ذكية عقلانية في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" قلما وجدنا الزاوية الواقعية التي تقاس في تلك المواضيع، تمحور الكاتب "بيجوفيتش" في نقاش تلك القضايا نحو الإنسان فهو الآلة المتعددة التي تنشأ منها المجتمع وهو فرد الأسرة وهو شريك الزواج.
لا يوجد إنسان بلا روح ولا روح دون أخلاق، عكس ما نَظر الفيلسوف الشيوعي "كارل ماركس" في نظرته للإنسان الذي يعمل في مجتمع نظامي، أي إنسان الطوبيا "المجتمع المنظم الراقي" ويرى أن المبادئ الأخلاقية لا معنى لها وأن المجتمع الشيوعي لا يوجد به أخلاق، بل كل فرد يعمل كموظف يؤدي عمله وينتمي إلى جماعته وفكرته. كالنحل عندما يقذف بالنحلة المريضة خارج الخلية، فإنه بذلك لا ينافي الأخلاق على العكس فالنحلة التي تدافع وتضحي من أجل خليتها تدافع بدافع الآلة الوظيفية لا بدافع الأخلاق أيضا وأكد شيوعي الثورة "لينين" نظرية سَابقه بجملته الشهيرة عن الاشتراكية أنها " ليس بها ذرة من الأخلاق" فيَتجرد الإنسان من أخلاقه في لباس وظيفته المؤمن بها، ويصبح بلا روح. ولكن توجد حقيقة نظرية لا يجب تجاهلها أن الإنسان حر الاختيار في سلك طريق الخير أو الشر العمل الجماعي أو الفردي الانتقام أو العفو. ونبرهن على ذلك أن المجتمعات الاشتراكية تجد أغلبية حديثها عن حق الشعب والمجتمع متجاهلة حق الإنسان والإنسانية.
فَدوافع وحاجات الإنسان هنا وهناك تختلف في المجتمع يحتاج الإنسان الانخراط فيها من أجل البقاء المادي والمصالح الشخصية المنافع المتبادلة أم الجماعة فَانضمام الإنسان لها روحي من الدرجة الأولى قائم على الانتماء للأفكار وتلاقي الأرواح نحو مرتكز غاية بعينها واجتماع العقول لفكرة مؤدلجة. وأما من ناحية القانون في تلك الحالتين فقانون المجتمع تنظمه التبعية والاستغلال أما الجماعة فالعدلة والأخوة هي السبيل للوصول من الانتماء إلى الغاية.
كان الزواج من نظر المسيحية شرًا لا بد منه أقل من شر ارتكاب الزنا ولكن كان الخير في الاعتزال والعفة المطلقة كما يقوم رهبان وقساوسة البارحة واليوم |
لابد من شيء روحي ينظم العلاقة بين الأسرة والمجتمع الحضاري، فمُجتمع "الطوبيا" كلما زاد في صلابته زادت الأسرة في هشاشتها وتفككها. وينظر "أنجلز" و"ماركس" والكاتبة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" لتلك القضية فقسم الأول الإنتاج إلى عملية ذات وجهين الأول يشتمل على إنتاج وسائل الوجود من السلع كالغذاء والملبس والمسكن أما الثاني هو إنتاج الكائنات البشرية نفسها أي تكاثر النوع. ولكي يتم تحرير النساء من الرابط الأسري يجب الزج بهم في النشاط العام أي العمل في المجتمع، أما الشيوعي فيرى أن القضاء على الأسرة يأتي بتكيف الإنسان كليا مع المجتمع وبذلك تتحول جميع أساسيات الوجود الإنساني من الأسرة إلى المجتمع أما المرأة فقالت ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة الأمومة والغريزة الأبوية.
وننتقل من النظرية إلى الواقع. حيث بشهادة مراكز الإحصاء وتقارير حكومية لبعض الدول المذكورة. أكدت أن الحضارة بدون تنظيم يكبح ماديتها تؤدي إلى تفكك الأسرة. ففي عام 1960م تساوت عدد حالات الزواج مع الطلاق في "كاليفورنيا" وفي العام ذاته كانت نسبة الطلاق تساوي 26 بالمائة بينما صعدت تلك النسبة لتصل إلى 48 بالمائة بعد مرور 15 عاما فقط في الولايات المتحدة الأمريكية مجتمعة، بينما في الدول الأكثر تنظيما لآلية العمل " الاتحاد السوفيتي" كانت عدد حالات الطلاق تعادل نسبيا عدد حالات الزواج بالعُشر وارتفعت بعد مرور 15 عاما أيضا إلى 27 بالمائة وفي استبيان أُجريَّ في فرنسا عن رغبات طالبات المدارس كانت الرغبات الأولى هي الاستقلال والحياة السائبة بعيدا عن الزواج والحياة الأسرية. بينما في عام 1972 نشر معهد "ستوكهولم للأبحاث" نتائج تحقيق استقصائي أجراه مع النساء اللاتي يذهبن إلى دور الدعارة وكانت أكثر الحالات نساء ميسورات الحال بينما كان ذهابهن بدافع الإدمان للحياة السائبة ورفضهم المجتمع الأسري.
والدول الاقتصادية الأسيوية مثالا ففي الصين وكوريا يعيش ملايين الأسر في حالة انعزال تام، يعمل الأب وتعمل الأم في مكان آخر بعيدا ولا يلتئم شمل الأسرة إلا مرة واحدة في العام والسبب حاجة الدولة إلى التقدم من أجل الأيدي العاملة والمادة البشرية.
ويرى على عزت بيجوفيتش أن الحضارة قد جاءت بالخزي للأسرة لاسيما الأمهات. وأن الثقافة دائما هي مثالًا رادعًا للمادية الحضارية تجاه الأسرة فهي تمجد الأم، لأنها جعلتها رمزًا وسرًا وكائنًا مقدسًا وخصصت لها أجمل الأشعار واللوحات الفنية والأعمال الموسيقية. وأن الثقافة تنظم الحياة بين العقل المادي والعاطفة الروحية فتعطي لكل واحد حقه في العيش بتناغم مع الآخر.
يقول القديس "بولس" في العهد الجديد "الكورنثيون" إن غير المتزوجين معنيون بالرب كيف يرضونه، وأما المتزوجون فَمعنيون بالدنيا. أي كيف يرضون زوجاتهم؟" فكان الزواج من نظر المسيحية شرًا لابد منه أقل من شر ارتكاب الزنا ولكن كان الخير في الاعتزال والعفة المطلقة كما يقوم رهبان وقساوسة البارحة واليوم، ومع تحول التدريجي للمادية وانتشارها في أوروبا الحديثة فكانت الحرية الجنسية كمبدأ مادي لا شيء لا مفر منه. حيث المرأة يسمح لها بجماع رجال كثر متجاهلة العقد القدسي الذي لا يسمح حتى بالانفصال "الطلاق".
فجاء مفهوم الإسلام كمرجع ديني ومدني كحل وسط للأزمة القائمة بين القدسية والمادية في قضية الزواج. زواج ديني مدني، عقد اتفاق مدني يتم في حفل ديني في نفس الوقت والذي يعقد الزواج "رجل دين وموظف عند الدولة" وبما أنه أصبح عقد مدني أي يوجد آلية مدنية لإنهاء العقد وبمنظور إسلامي يسمى الطلاق، وهو أبغض الحلال عند الله. فلا زواج أبدي ولا متعة جنسية مفرطة. فجاء تشريع الإسلام ليعطي الإنسان التوفيق والعدل بين تطلعاته وأشواقه الروحية وبين حاجاته المادية كي يحافظ على العفة دون أن يتخلى عن الحب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.