من المؤكد أننا اذا أردنا سرد تاريخ المضحكات المصرية فلن نتوقف ساعة واحدة عن الضحك، ولكنه وكما قال المتنبي ـالذي وصف مصر الكافوريةـ بأنها بلد المضحكات، سيكون ضحكا كالبكاء، لا تستريح به النفس ولا يتنزه به الخاطر ولا يسعد به القلب ولا يتورد له الوجه، فمصر التي حلم فيها أحد العبيد الأغاوات بأن يحكم ديارها تحقق حلمه بالفعل وحكمها، بغض النظر عن كون كافور الاخشيدي الذي ظلمه الشعر الابتزازي المتمثل في الشاعر الجبار أبو الطيب المتنبي الذي مدحه وذمه في آن واحد من أجل الهبات والعطايا التي كان ـولا يزالـ يقتات منها شعراء اللامبدأ وان كانوا من شعراء الطبقة الأولى، قد أنصفه المؤرخون الأخفت صوتا من صوت المتنبي، لكونه كان حاكما عادلا وأمينا ونبيلا أيضا وهو الذي حافظ على عرش الأخشيد أكثر من عقدين من الزمان وانتهت بموته دولتهم في مصر، كحال الحاجب المنصور في أندلس الأمويين.
ومن بعد ذلك جاءت دولة المماليك العظام، الذين وان كان الوعي الجمعي قد رفضهم في البداية الا أن ذلك لم يمنع من قيام دولتهم التي كان لها أثرا عظيما على الإسلام والمسلمين في أحلك الفترات التاريخية التي مرت على ديار الإسلام وبلاد المسلمين، ولكن بقي التاريخ ليقول أن أهل مصر، منذ فجر ذلك التاريخ ـ وبحق ـ لمن غلب، دون النظر إلى فكرة طبيعة الأشياء والأصول والتقاليد وما لا قد يستسيغ العقل وقوعه ولكنه يقع في مصر، وليذهب ذلك العقل الى الجحيم، ليبقى ضحك المتنبي الذى هو أمر من البكاء.
ومن سلسلة المضحكات المبكيات المصرية، نتوقف عند جمهورية العسكر التي قامت في مصر بين عشية وضحاها فجر يوم الثالث والعشرين من يوليو من عام 1952م، والتي لا تزال إلى اليوم، باقية وتتمدد، لتنهي على قد يقيم الأود ويسد الرمق، من فضالة حضارة ضاربة في عمق الزمان، تتقوت منها، وهى تتمدد على فراش الموت بعد أن باتت تتسمى بالجمهورية، ولكنها جمهورية "عنبر العقلاء" بالطبع.
إن تحركنا ليلة 23 يوليو 1952م، والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعا انقلابا، وكان لفظ الانقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا، ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه يعبر عن أمر واقع |
ومن المضحكات الاختلاف الذي لا يزال قائما على سبيل الترف الفكري ـفقطـ في توصيف الحدث الذي وقع بسلاسة عجيبة من ثلاثمائة ضابط صغير على الأكثر استطاعوا طرد الملك المحاط بكبار الجنرالات والحرس الحديدي والمتوائم بصورة أو بأخرى مع الإمبراطورية التي يقف من أبنائها أكثر من ثمانين ألف جندي مدجج بالسلاح شرق قناة السويس، وهذا لا يعنينا في هذا المقام ولكن ما يعنينا هو ذلك الاختلاف حول توصيف ذلك الحدث الاستثنائي الذي تغير به وجه التاريخ الحضاري والسياسي لمصر والمنطقة العربية، هل كان ثورة، أم انقلاب أم حركة مباركة؟
لا يزال الخلاف قائم حول القول بأنه كان ثورة، وأنه ما كان إلا انقلاب عسكري، واندثار فكرة الحركة المباركة لأن الفريقان أدركا فيما بعد أنها كانت حركة ولكنها لم تكن قط مباركة، ولكن ما يثير الضحك هو توصيف مفجري ذلك الحدث، وعلى رأس هؤلاء بطبيعة الحال اللواء محمد نجيب، ومن قبله مؤسس جمهورية عنبر العقلاء فيما بعد البكباشي جمال عبد الناصر، فاللواء محمد نجيب أجاب على هذا السؤال في كتابه السخيف "كنتُ رئيسا لمصر" حيث قال:
"إن تحركنا ليلة 23 يوليو 1952م، والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعا انقلابا، وكان لفظ الانقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا، ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه يعبر عن أمر واقع، وكان لفظ الانقلاب هو اللفظ المستخدم في المفاوضات والاتصالات الأولى بيني وبين رجال الحكومة ورئيسها للعودة الى الثكنات.. ثم عندما أردنا أن نخاطب الشعب، وأن نكسبه إلى صفوفنا، أو على الأقل نجعله لا يقف ضدنا، استخدمنا لفظ الحركة، وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب، وهو في نفس الوقت لفظ مائع ومطاط ليس له مثيل ولا معنى واضح في قواميس المصطلحات السياسية.
وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة، وبدأنا في البيانات والخطب والتصريحات الصحفية نقول.. حركة الجيش المباركة.. وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع لتعبر عن فرحتها بالحركة.. وبدأت برقيا التأييد تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة، فأحس البعض أن عنصر الجماهير الذي ينقص الانقلاب ليصبح ثورة قد توافر الآن، فبدأنا أحيانا في استخدام تعبير الثورة إلى جانب تعبيري: الانقلاب والحركة، على أنني أعتبر ما حدث ليلة 23 يوليو 1952م انقلابا.. وظل على هذا النحو حتى قامت في مصر التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فتحول الانقلاب إلى ثورة".
وربما يقول قائل أن اللواء محمد نجيب يريد من هذا الرأي النيل من أولئك الضباط الأشرار ـكما وصفهم في كتابه السخيف ـ ردا على ما كان منهم تجاهه بعد أن رضي بأن يكون لهم الواجهة الكبيرة التي يختبئون خلفها حتى يستقيم أمر الجمهورية الوليدة فكان جزاؤه كجزاء سنمار وإن كان دوره في الحركة أو الانقلاب أو الثورة لم يكن دور "سنماري" اللهم إلا لكونه واجهة كبيرة تدفع الطمأنينة في النفوس التي لن تثق بشرذمة من الضباط الأصاغر المجهولين والذين كان أكبرهم سنا في الخامسة والثلاثين وأقدهم رتبة في رتبة القائمقام أو العقيد.
ولكن هذا النعت ورد بكل أريحية وربما فخر من جانب أحد أكبر مؤرخي جمهورية عنبر العقلاء، وهو الضابط والكاتب الشيوعي أحمد حمروش في كتابه الحكاواتي الطريف المسمى بـ "قصة ثورة 23 يوليو" حيث ورد في الجزء الأول منه تحت عنوان "التحضير للانقلاب" الآتي:
"أنه تقرر يوم 19 يوليو أن تتم الحركة ليلة 21، 22 يوليو ـ ويصف حمروش الظروف والملابسات قبل وصف الفعل بقوله مستطردا ـ ورغم ضيق الوقت لم يكن هناك سبيل للتراجع ولم يعد هناك مفر من الاقدام… وأصبحت القضية هي قضية الاتصالات والتحضير للعمل الانقلابي … بعد صرف النظر عن فكرة الاغتيالات"، وإن قال قائل أن حمروش رغم أنه من مؤرخي يوليو إلا أنه ناله ما نال أمثاله من المثقفين في صفوف التنظيم كخالد محي الدين ويوسف صديق "الحصان الأسود للعمل الانقلابي".
ولهذا سيكون القول الفصل في الوصف الذي صدر مكتوبا على حين غرة ورُبما كذلّة قلم من الرجل الأهم في الضباط المُلقبين من جانب أنفسهم بالأحرار، ومؤسس جمهورية عنبر العقلاء جمال عبد الناصر الذي كتب مقالا طويلا في مجلة التحرير صباح يوم 1 أكتوبر من عام 1952م أي بعد وقوع الانقلاب وطرد الملك وقبل إعلان الجمهورية والتخلي عن السودان وأجزاء أخرى من الجسد المصري الملكي، عنوانه الملفت للنظر والمثير للضحك: "كيف دبّرنا هذا الانقلاب؟"، وهذا المقال الذي يعُد من قبل ذلّة القلم يكشف وعلى حد قول الدكتور عبد العظيم رمضان على أن فكرة الثورة لم تكن قد برزت بعد لتجميل وجه الانقلاب العسكري القبيح بطبيعته، ومن ناحية أخرى يكشف ذلك العنوان عن استحياء الانقلابيين من نعت انقلابهم بالثورة وهو ليس بثورة، ويكشف من بين ثناياه عن انتظار الثمن المتمثل في الحكم على اعتبار أنهم مدبري ذلك الانقلاب، وقد دفعت مصر ذلك الثمن باهظا ولا تزال، ولسان حالها يقول ليتكم ما دبّرتم "ذلك الانقلاب".
ومن الجدير بالذكر، القول بأن التشدد في القول بنعت الحدث الذي وقع في ليل 23 يوليو 1952م بالانقلاب أو بالثورة، من الأهمية بمكان، حيث من خلاله تأخذ دولة 1952م مشروعية الوجود وشرعية الحكم، بغض النظر عن فكرة دولة الأمر الواقع التي تشبه نظرية الموظف الفعلي الذي يشغل منصب ما عن طريق الخطأ دون أن يكون قد تم تعيينه بطريقة سليمة وقانونية في ذلك المنصب أو في تلك الوظيفة، فمن حق ذلك الموظف الفعلي التعامل معه وكأنه موظف قانوني من الناحية المادية والمعنوية، وهذا بطبيعة الحال مقرون بتوافر حسن النية وانتفاء توافر الغش لأن الغش بطبيعته يفسد كل شيء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.