شعار قسم مدونات

مع المقاطعة.. ضد الإقطاع

blogs مقاطعون

يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في معرض إجابته الشهيرة على سؤال ما الأنوار: "من الممكن أن يَتنوّر جمهور ما انطلاقا من ذاته ويعتبر هذا أمر لا مفر منه؛ إذا ما ترك المرء له حريته" وإذا أمكن تلخيص إجابة كانط فيمكن القول إن الأنوار هي تحرير العقل الفردي والجماعي من أية وصاية أو سيطرة خارجية عليه قد تتعامل معه بمنطق أنه غير راشد أو مؤهل ليدبر أمره بنفسه، فالأنوار تعني حرية الذات واستقلالها وعدم تبعيتها لأي كان.

وبهذا يغدو كل تدبير لشؤون الناس نيابة عنهم وكأنهم لم يبلغوا عمر الرشد، وهندسة حياتهم بما لا يتناسب مع تطلعاتهم هو نوع من الوصاية التي تذكر بمرحلة الإقطاع البائدة التي عاشتها أوربا في مرحلة زمنية سابقة، وإذا كانت أوربا قد قطعت مع هذه الثقافة المظلمة والرجعية، ففي العالم العربي مازالت هذه الثقافة تنتعش بطرق وأشكال متخلفة، وسأوضح هنا ببعض الأمثلة من واقعنا تجليات ثقافة الوصاية الإقطاعية، والتي تعكس حالة من انعدام الحرية الحقيقية، وهل يمكن الحديث عن الحرية عندما يتم تحديد وحصر خيارات الناس الإعلامية والفنية والاستهلاكية والذوقية وفرضها عليهم كأنها قدر مقدر؟ 

عندما يفكر ويجادل العلماني مثلا من داخل الدين ويدعو إلى فرض مقترحات عملية من شأنها تغيير أو تعديل أو حذف جزئية من جزئيات الدين الدقيقة والحساسة، فهو هنا وبطريقة لا شعورية يتحول إلى مفتي يلبس جلباب وعمامة الفقيه، هذا مع أنه ينادي بعزل المقدس وحصره في الحيز الخاص، فما يفعله إذا يتناقض مع ما يبشر به، ويزداد الأمر تعقيدا وغرابة عندما نكون أمام حالة ثلاثية الأبعاد: علماني وفي نفس الوقت سياسي ومُفتي، فهذه المتناقضات لا تجتمع إلا في جمجمة عربية تستبيح كل شيء، والحق أن هذه المتناقضات لا يمكن تفسيرها إلا بعلة واحدة؛ وهي منطق الوصاية المبطن على الناس والرغبة في تشكيل وتحديد خياراتهم الدينية والدخول إلى عالمهم الخاص.

على مستوى آخر يمثل جمهرة من المثقفين والأكاديميين نموذجا فريدا للوصاية الإقطاعية، فعندما يموج المجتمع ويشتعل بقضية من القضايا التي تمسه؛ فإننا نلاحظ بعض النخب تفضل عدم الانحياز إلى هموم ومشاكل المجتمع مع التفرج والحياد السلبي وكأنها غير معنية، والبعض الآخر يتخذ مواقفا باردة لا تسمن ولا تغني من جوع، وبإمكان أي واحد يتابع ثلة منهم على مواقع التواصل الاجتماعي أن يلاحظ انهم غارقون في خطابات وجدالات مفارقة ومتعالية ومنبتة الصلة بالمخاضات المجتمعية، وأنا هنا لا أعمم طبعا.

المقاطعة كثقافة متشكلة هي مدخل تحرير الدين من المتنطعين بفصلهم عنه ووصله بالمجتمع، وتحرير السوق من السماسرة الذين يراكمون الثروة بجشع رغم فقر الناس

تتعدى الوصاية الإقطاعية الجانب الثقافي والديني، بحيث يمكن أن نجد لها مظهرا آخر أكثر بشاعة وهو الجانب الاستهلاكي الذي يلامس الحاجات اليومية المباشرة للطبقات الشعبية، إلا أن حملة مقاطعة بعض المواد الاستهلاكية التي انطلقت في المغرب الأسبوع الماضي بينت أن القوى الشعبية لا زالت تستبطن عدة إمكانات وبدائل خلاقة من شأنها أن تغير المعادلة مستقبلا لصالح التمكين للديمقراطية والمساواة والتوزيع العادل للثروات، وبصفة عامة من شأنها أن تعيد للحرية الحقيقة معناها المسلوب، ولما كانت هذه المقاطعة انتفاضة ضد غلاء الأسعار؛ فهي وعي شعبي جديد تبلور لرفض الوصاية الاستهلاكية من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة هي رسالة للتنديد بمأساة زواج المال بالسلطة.

لم يعد المجتمع يقبل بالأمر الواقع الاستهلاكي الاستبدادي، لقد الوسيلة الفعالة التي يتم توظيفها لخدمة هذا الغرض هي الدعاية الإعلامية عبر التزوير والخداع وغسل الأدمغة ونشر وتسويق الأكاذيب بطرق وأشكال مختلفة، فالغرض هو صناعة التطبيع مع هذه المواد حتى وإن أصبحت مرفوضة اجتماعيا، لكن هذه المقاطعة وإذا كانت حملة إلغاء التعصيب في الإرث التي مرت قبلها، قد ظلت حملة نخبوية مفتعلة اندرجت في إطار ما يمكن أن نطلق عليه الوصاية القيمية حتى إنه لم يلتفت لها إلا قلة من الناس؛ إلا أن حملة مقاطعة المنتوجات الغذائية عكست مستوى مدهش ومبهر من التفاعل والترويج لها؛ حتى أصبحنا نرى الفن والشعر والزجل والنكتة والأغنية والرسم والفتوى…كلها وسائل استخدمت للتعبير عن رفض الغطرسة والتوحش في استغلال السلطة لمراكمة الثورة، والتعامل مع الشرائح الشعبية على أنهم زبائن وليسوا مواطنين كرماء.

وإن هذا المستوى من الابتهاج وهذا الإبداع في طريقة الاحتجاج يوضح أن المقاطعة قضية مجتمع لا قضية حزب أو جماعة أو أي فئة، إن هذا الوعي الجديد فاجأ وأربك مصالح وثروات وصفقات، ولذلك فمن الطبيعي أن يتم تزييف حقيقة هذه المقاطعة وإعطاءها أبعادا سياسيا لإخفاء حقيقتها وهو رهان خاسر حتى وإن نجح مؤقتا في بلبلة الرأي العام وخداعه بالدعاية المغرضة.

من الصعب أن يقتنع التجار ومحتكري الثورة ورأس المال بجدوى وخطورة مثل هذه التحركات الشعبية؛ بل إن التأمل في مختلف التجارب العربية يتأكد له أن العكس هو الذي حصل ويحصل؛ فدائما التصلب والعناد والتحدي هو رد الفعل المعتاد، حيث الإسراع إلى القيام بتحركات وتدابير استعجالية من أجل تدارك الموقف والالتفاف حول هذه التحركات الشعبية ووضع حد لها وإقبارها من المهد.

إن الثروة والسلطة والإعلام هي أدرع الفساد والطغيان على مر التاريخ الإنساني، فمن يمتلك هذا الثلاثي المشؤوم يستطيع أن ينصب نفسه وصيا على الناس، ويتحكم بالتالي في عقولهم وجيوبهم وبطونهم، ومن خلال هذا التحكم يستطيع أن يقنعهم بالواقع الذي يريد هو، وليس الواقع الذي يطمحون إليه أو الذي يجب أن يعيشوا فيه، وباختصار فالذي يجمع هذا الثلاثي لا بد وأن يكون إقطاعيا بشكل أو بآخر.

الوصاية الدينية العلمانية أو الاستهلاكية التجارية أو الفكرية التخديرية، هي نوع من الإقطاع لكنه إقطاع مُحين ومعدّل يدل على غياب الحرية الحقيقية؛ فمن منا يلبس أو يشاهد أو يأكل أو يقرأ بحرية في عالم اليوم؟! إن كل واحد من هذه النماذج الثلاثة يتعامل مع المواطن وكأنه زبون عنده، فالعلماني يريد ترويج فتوى باسم الحداثة، والتاجر يريد ترويج بضاعة بالثمن الذي يشتهي ولا يمه الفقر والحاجة، والمثقف يريد ترويج فكرة حتى وإن كانت مجتثة الصلة بواقع الناس.

لتفكيك عقلية الإقطاع البائدة بكل تجلياتها وبالتالي تطوير ثقافة المقاطعة؛ لا بد من تنوير الشعب ولتنوير الشعب لا بد من جرعات زائدة من الحرية، والمقصود هنا حرية إعلامية أولا؛ وذلك بأن يتاح للجماهير الشعبية خيارات وبدائل إعلامية بديلة عوض أن يتم وضعهم في قفص إعلامي وحيد وأوحد، ولا شك أن الإعلام البديل قد حقق نوعا من التوازن المنشود، ثم لا بد ثانيا من فتح المجال أمام منافسة استهلاكية في المنتوجات الغذائية المعروضة وعدم السماح لأي كان بالسيطرة على السوق والاستيلاء على جيوب الناس، وأخيرا لا بد من تحرير الدين من المتنطعين وذلك بوضح حد للمزايدات العلمانية.

إن المقاطعة كثقافة متشكلة هي مدخل تحرير الدين من المتنطعين بفصلهم عنه ووصله بالمجتمع، وتحرير السوق من السماسرة الذين يراكمون الثروة بجشع رغم فقر الناس، وتحرير الإعلام من السيطرة والانفراد وفتح المجال لإعلام بديل؛ وبكلمة إن ثقافة المقاطعة هي بديل الحضاري لثقافة الإقطاع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.