شعار قسم مدونات

ماذا يعني أن يُقاطِع المغاربة اجتماعيا؟

مدونات - المقاطعة بالمغرب
بعيدًا عن مدى نجاعة عمَلية مقاطعة المغاربة لبعض المنتوجات ومردودها على الحياة الاقتصادية للمواطن المغربي، أو تأثيرها الاقتصادي الفعلي على الشركات الاحتكارية المغربية المستثمرة/المستغلة للحليب، الوقود والماء، هناك دلالات سوسيولوجية عميقة كامنة وراءَ فِعل المقاطعة الذي يقوم به المغاربة هذه الأيام. الأخير يَجري دون كبيرِ متابعةٍ لازمة من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية على مستوى تحولات دينامية الحراك الاجتماعي وآليات الاحتجاج الجديدة، في الوقت الذي يبدو أنه يجري بكثيرٍ من ضغط الدم والأعصاب المشدودة من لدن خبراء المال والأعمال.
 
ما يجهله/يتجاهله العديد من بارونات الاقتصاد والمال هو أن دورة الإنتاج لا تتم على مستوى البناء التحتي الاقتصادي المحض، بل هي مجموع علاقات اجتماعية، فالسلع والخدمات مثل الأغذية والملابس والمياه والمأوى والمرافق الصحية والكهرباء والرعاية، وما شابه ذلك هي نتاجٌ للعلاقات الاجتماعية التي شاركت في إنتاجها وتوزيعها وتداولها واستهلاكها (1)، ولعل هذا ما أظهرت المقاطعة الجارية حاليا بالمغرب صحّته، رغم تهرّب البعض من الاعتراف به.
 
لَنَا أن ننظُر بداية بشيء من التفصيل الضروري في طبيعة المواد الاستهلاكية التي تم مقاطعتها حصرًا دون غيرها (كمرحلة أولى)، وهي الماء والحليب والوقود:
أولا: الحليب، مادة استهلاكية حيوية، ومنتوج يتم استهلاكه بصفة شبه يومية من طرف الأسر المغربية (أو على الأقل هكذا أريد له أن يكون)، كما أن الحليب يُمثل المادة الخام لصناعة قائمة الذات هي ما يُعرف عادةً بالصناعات الحليبية، والتي يتم من خلالها انتاج مشتقات كثيرة (يوغورت، روب…) كما أن الحليب ومشتقاته تخضع كلها لكثير من مضاربات العرض والطلب بداية من المنتِج الأساسي (الفلاح والفلاح الصغير) ثم انتهاءً بمقياسات السوق الاستهلاكية المحلية والعالمية.

الحركية الجديدة داخل شبكات الميديا الرقمية التي لا تقوم حصرًا على حَمَلات الإشهار المدفوع من طرف الشركات لغرض الدعاية قد يستثمرها المستهلك/المستعمل لشنّ حملاتٍ عكسية مُضادة ضد الغلاء
ثانيا: الوقود، هو الآخر مادة أساسية تمثل القلب النابض لما يقارب مجموع الحركية الاقتصادية في مجمل الأنشطة الاعتيادية لمختلف الأفراد والشركات والمؤسسات، كما أنه مادة أساسية تخضع هي الأخرى لمضاربات عالمية ويتم عبرها استخراج كم هائل من المواد المشتقة (زيوت التشحيم، الديزل، الكيروسين…).

ثالثا: الماء، ما من داعٍ هنا للتفصيل في كون الأخير عنصرً حيوي لا يمكن الاستغناء عنه ناهيك عن استبداله.
 
يبدو التركيز هنا واضحًا على مواد أولية، أساسية، يومية، وحيوية، تستَبِد بها احتكارات اقتصادية "وطنية" محدّدة، ومن ثُم فِإن فِعل المقاطعة وإن بَدَا عفويًّا فهو في حقيقته موجهٌ، مقصود، وواعي والأكثر من هذا وذاك منطقي وطبيعي لأنه يستهدف المنتجات الأساسية للمواطن (التي لم يحدث أن طالب يومًا بغيرها) فهي كلها مواد أساسية يستهلكها عموم المواطنين ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستغنوا عنها، كما أنها ليست مواد مُكمِّلة أو زائدة، وأخيرا ليست مواد استهلاكية خاصة بفئات بعينها. ولعل هذا ما جعل فعل المقاطعة يتّسم بقوة ودعم عارِم ساهمت فيه مختلف الفئات الشعبية، فالأمر يتعلّق بالحليب وليس اليوغورت مثلاً، كما يتعلق بالوقود وليس زيوت التشحيم، بالإضافة إلى أنه يرتبط بالماء تحديدا وليس المشروبات الغازية على سبيل المثال.

 

نوعية الشركات التي تم مقاطعتها ذات دلالة أساسية ومفصلية من الناحية السوسيولوجية كذلك، إذ أن فِعل مقاطعتِها يُظهر سمات الوعي الحسّي لدى المواطن المغربي وذكاء اختياراته، بالنظر لكون المقاطعة موجهّة حصرًا ضد شركات "وطنية" أي أن استثمارها الأساسي محلي وليس دولي، كما أنها ليست شركات توريد أو توزيع عالمية، بل هي شركات انتاج "مغربية"، وبعض الفئات التي تُدير هذه الشركات لها ارتباطات/ارتهانات سياسية محدّدة، بالنظر لِكَون وُلُوجها للحقل السياسي في مرحلة محددة لا يبدو مستقلا عن حاجتها في "التوسع والتّحصُّن" الاقتصادي.

 
هذا الارتباط بين الاقتصادي والسياسي هو ما حاوَلَت أن تستثمرهُ عكسيّا هذه اللوبيات الاقتصادية ضد حملة المقاطعة، في محاولة إظهارها أن هذه الحملة "خطوة سياسية" من طرف الخصوم ضد "زعامتها السياسية" وليس ضد "احتكاريتها/جشعها الاقتصادي" كما حاول النشطاء إظهارها. وهو منطقٌ يبدو متجاوزًا باستناده على دُوغما كلاسيكية تقوم على فكرة مؤداها أن الدينامية الاجتماعية/الحركية الاجتماعية لا بد أن تستند بالضرورة على تأطير/مرجعية سياسية قد تكون حزبا أو شبكة سياسية منظمة، ولا يمكنها بأي حالٍ من الأحوال أن تنطلق من الأفراد والجماعات المعزولة/المستقلة/العفوية (غير المسيَّسة)! ولعل ذلك ما أثبت النشطاء خطأه أولاً بدفاعهم عن استقلالية الحملة بقوة من خلال منشوراتهم الفيسبوكية، ثم ثانيا بتأكيد عددٍ من الزعامات السياسية (عبد الإله بنكيران مثلا) نفسها على رفضها للطريقة والأسلوب الذي قامت عليه المقاطعة في رسالة تبدو واضحة مفادها أن لا علاقة لها بالمقاطعة لا من قريب أو من بعيد.
   undefined

 

إن انطلاق هذه المقاطعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي مُمثلة أساسًا في فيسبوك له دلالات أساسية لا يمكن تجاهلها لفهم الدينامية الحالية والمستقبلية للحركات/الحركيات الاجتماعية، ومع أن ذلك ليس بجديد كون فاعلية هذه الشبكات ظهرت بما لا يدع مجالا للشك منذ الأيام الأولى لما عرف بالربيع العربي، فإن المتابعة اليومية والدقيقة للنشطاء في هذه المقاطعة تُظهر أن الميديا (القنوات) الرسمية التي تعتمد منطق الإيصال بدل الاتصال، باتت اليوم عاجزة ومُهملة كمصدر للخبر، بل إنها محل هجوم واستهزاء من طرف روّاد الميديا الجديدة التي عبّر عنها زخم كبير في حملة المقاطعة على مستوى فيسبوك/ يوتيوب باعتبارهما مساحة ديمقراطية تفاوضية اتصالية بديلة، لم يعد مُمكنًا بعد الآن اعتبارها فضاءً يشغله "شبابٌ طائش" يقوم بمغامراته خارج العالم، أو يقوم فقط بزوبعاتٍ في كأس،ـ لا تأثير لها على دينامية الحياة اليومية، ذلك أنه يكفي أن تتم "عقْلنَة/ توجيه" هذه "الزوبعات" حتى تصبح خطراً حقيقيا يتهدد كل ما يعتبره المواطن مصدر أذىً له.
 
إن الحركية الجديدة داخل شبكات الميديا الرقمية التي لا تقوم حصرًا على حَمَلات الإشهار المدفوع من طرف الشركات لغرض الدعاية كما هو الحال في نموذج الميديا الاتصالي التقليدي (الراديو، التلفزيون..)، وإنما على شبكات جديدة (فيسبوك، يوتيوب..) بنفس الطريقة التي قد تستثمرها الشركات لغرض الدعاية، قد يستثمرها المستهلك/المستعمل لشنّ حملاتٍ عكسية مُضادة ضد الغلاء أو انتقاد الجودة أو حتى المقاطعة في إطار ما يمكن تسميته بـ feedback active (تغذية راجعة حيّة) أي أنها تفاعُل من طرف المستهلك يقوم على إحداثِ تأثيرٍ فعلي على المُنتِج نفسه.
 
لم يمنع انطلاق المقاطعة رقميا عبر فيسبوك من أن تكون لها فاعلية مرئية ملموسة في الحياة الاقتصادية الاجتماعية، وهو ما شاهده المواطن عن كثب في المنشورات والفيديوهات اليومية التي تعرِض تغيّرا في استهلاك منتجات محددة دون غيرها، وقد يزيدُ بشكل غير مسبوق من فاعليتها مستقبلاً إِحداثها لتغيّرات ملحوظة في الأثمِنة مع استمرار المقاطعة، ولعل هذا ما يبدو أن الفاعلين الاقتصاديين يدركون جيدا خطره على العائد الاقتصادي للشركات.

______________________________________________________________________________________________
1- G. Carrier، James. A Handbook of Economic Anthropology. Cheltenham: Edward Elgar Publishing، 2005. p 81

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.