لا يخفى على كل متابع للمعرفة وتجلياتها التطبيقية المعاصرة ما لمراكز الدراسات من أثر في رسم وإنتاج السلوك السياسي والثقافي والتأثير البالغ في الحراك العالمي لدول العالم المتقدم، إذ أصبحت مراكز الدراسات بحق العقل الواعي المشكل لعلاقات دول العالم، والمساهم الأبرز في نهوض مختلف التيارات والتجمعات الفكرية الفاعلة في المجتمعات المتحضرة.
ماهية مراكز الدراسات ومفهومها وأدوارها المعاصرة تتجاوز الصورة التي طبعت في ذهن كثير من الإسلاميين عنها، فالواقع العملي والإنتاج المشاهد لمراكز الدراسات الإسلامية والعربية عمومًا يعرّف تلك المراكز على أنها مراكز بحثية وعلمية وبيوت لجمع وتقديم المعلومات فقط، وهو ما يجعلها تتشابه إلى حد التطابق مع مراكز الأبحاث الجامعية والمؤسسات التعليمية الأكاديمية، وهذا خلط ينبغي التنبيه عليه، ولا بد من السعي لفض الاشتباك الحاصل لدى الكثير حول وظيفة وماهية مراكز الدراسات الاستراتيجية، ووظيفة وماهية مراكز الأبحاث العلمية الأكاديمية!
فلا يمكن للقادة ولصناع القرار في مختلف المؤسسات أن يعتمدوا على أعمال أساتذة الجامعات والباحثين في توصيف وتحليل الظواهر الاجتماعية والثقافية وغيرها من القضايا الطارئة واليومية؛ لأن دراسة الباحث الأكاديمي تأخذ وقتًا لا يقل عن سنتين غالبًا وهو ما لا يناسب حاجة صانع القرار الوقتية، كما أن الإنتاج البحثي العلمي يُقدم غالبًا بين 30: 50 صفحة، غير أن ما يحتاجه صانع القرار من مراكز الدراسات حول القضايا التي تهمه تكون عادة بين 3: 10 صفحات مركزة، ومعظم الإنتاج البحثي ذي الصبغة الأكاديمية يغطي جوانب نظرية ضعيفة الصلة بالمستجدات المعاصرة والملحة التي يحتاج فيها صانع القرار في أي مؤسسة أو تيار إلى خارطة طريق فكرية تساعده في اتخاذ القرارات الواعية والسريعة.
نظرًا للغياب التام أو الجزئي لمراكز الدراسات الإسلامية بالمفهوم والدور المشار إليه، نرى ضرورة إنشاء مراكز دراسات فاعلة تسهم في تجاوز التعثر المتكرر الذي تعاني منه كثير من المؤسسات الإصلاحية |
فمراكز الدراسات تجيب عن أسئلة مثل: ما جوانب النجاح والفشل في التجربة الدعوية الإسلامية في اليمن خلال الـ40 سنة الماضية؟ ما الموجهات السياسية التي ينبغي على التيار الإسلامي في الخليج مراعاتها خلال الـ 20 سنة القادمة في ضوء التغييرات السياسية الحالية؟ ما أبرز التحديات والمخاطر التي سيواجهها التيار الإسلامي في موضوع التمويل المالي خلال الـ 10 السنوات القادمة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ وهناك آلاف أخرى من الأسئلة التي نحتاج لمعرفة أجوبتها، والتي تحتاج بدورها إلى عمليات فكرية ومعرفية موجهة تنتج حلولًا تسترشد بها المؤسسات الإصلاحية في مجتمعاتنا.
حاجة المؤسسات الإسلامية جدُّ كبيرة إلى الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية التي تفسر وتحلل قضاياها، وتضع رؤى واحتمالات مستقبلية تبصّر من خلالها صانع القرار السياسي والاقتصادي والدعوي والثقافي والفكري، إذ يُلاحظ مع الأسف ندرة في مراكز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في العالمين العربي والإسلامي، وإن وجدت فتكون لنخب محدودة فقط أكثرها معزول عن الجمهور والناس، كما تعاني من ضعف الإمكانيات والموارد ولا تستقطب أجيالًا من الباحثين، وهذا عكس ما يحدث في الغرب حيث الاهتمام الكبير بالدراسات المستقبلية التي تساهم مساهمة مباشرة في صنع القرار السياسي في تلك البلدان.
المشروع الإسلامي بمفهومه الواسع الذي يتجاوز فكرة التنظيمات والتيارات الإسلامية إلى كونه مشروعًا رساليًا عالميًا وإطار إنقاذ عالم للبشرية، يتطلب من الكيانات الحاملة لمختلف أجزائه أن تُنشئ مراكز دراسات وتفكير وبيوت خبرة تساعدها في نقل مشاريعها من المفاهيم النظرية إلى الممارسات التطبيقية والعملية وفق الأطر العلمية والدراسات الرصينة، البعيدة عن الأهواء والرغبات النفسية والمزاجية أو الانطباعات الشخصية للقضايا والأحداث والتي يعاني منها صناع القرار بمختلف اتجاهاتهم في عالمنا العربي، هذا وتتلخص أهمية تلك المراكز بالنسبة للعمل الإسلامي في جملة نقاط نشير إلى بعضها:
1- كثير من التيارات الإسلامية لا تعرف على وجه الدقة المجتمعات التي تعمل فيها ولا التيارات والجماعات ذات التوجهات المختلفة والفاعلة في تلك المجتمعات، إذ تقتصر غالبًا أحكام صانع القرار في المؤسسات الإسلامية على التوصيف السطحي لاتجاهات القوى الاجتماعية المختلفة، فينتج ذلك خللًا في التصور ومشكلة في العلاقات معها.
وحتى تدرك ضعف معرفتنا بمجتمعاتنا وانعكاس ذلك على قائمة أولوياتنا وتيه مشاريعنا الإصلاحية، عليك أن تسأل أي صانع قرار أو مصممي المشاريع في المؤسسات الإسلامية كم نسبة الأمية مثلًا في مجتمعهم؟ وكم نسبة الذكور بالنسبة للإناث؟ وكم عدد خريجي الجامعات خلال الـ 10 سنوات الأخيرة في بلدهم؟ وما هي أبرز وسائل الإعلام المؤثرة في مجتمعهم، وما الاتجاهات الفكرية للقائمين عليها؟
هذه الأسئلة وأشباهها لا تكاد تجد إجابة حاضرة لها، فضلًا عن مدى انعكاس إجاباتها على قائمة الأولويات واستحضار مدلولاتها الثقافية والسلوكية عند تصاميم المشاريع وتنفيذها في المؤسسات الإسلامية!
2- غياب مراكز التفكير الإسلامية نوعًا وكمًا جعل صناع القرار في العمل الإسلامي ينتجون قراراتهم بشكل غير علمي أو مدروس، بحيث أصبحت تلك القرارات خاضعة لعامل الخبرة والانطباعات النفسية والانتماءات التنظيمية، وهو ما ولّد مشكلات جمّة عانت منها قواعد العمل الإسلامي والمجتمعات الحاضنة لتلك المؤسسات.
3- اختلاط الأولويات وتداخل أساليب المعالجة للمشكلات، دون مراعاة لخصوصية كل بلد ولطبيعة كل مرحلة، فتجد مثلًا أن كثيرًا من الأولويات لتيار إسلامي في بلد تحولت إلى أولويات لتيار إسلامي في بلد آخر! بل وتحولت نظريات إصلاحية لكثير من المصلحين في حقب زمنية ماضية إلى ثوابت تدرّس عند كثير من الإسلاميين في حقب زمنية لاحقة! رغم أن المرحلة تتطلب خلق نظريات إصلاحية جديدة تناسب طبيعة المرحلة، وكل ذلك بسبب الفراغ الفكري الذي لم تملأه مراكز الدراسات الإسلامية.
4- تكرار الأخطاء وإنتاج نفس المشكلات؛ بسبب غياب الذاكرة الفكرية أو بيوت الخبرة، التي تقوم بتدوين تجارب العمل الإسلامي وتحليلها وتقديم المعالجات الملائمة لتلك الأخطاء حتى نتجنب الإنتاج المتكرر لنفس المشكلات.
5- حجم المتغيرات والمخاطر المحدقة بالعالم العربي والعمل الإسلامي بشكل خاص، يتطلب وجود مراكز دراسات تقدم حلولًا لقيادات العمل الإسلامي لتجاوزها، وإرشادهم للطرق المثلى في التعامل معها، فالخطر الشيعي الفارسي يتطلب دراسات معمقة لمعرفته وطرق التعامل معه، وعمليات التغريب التي استوطنت مظاهرها في بعض البلدان العربية بحاجة إلى دراسات أخرى متخصصة في مظاهرها والتطور الذي طرأ عليها وآليات المواجهة لها بما يتناسب مع طبيعة كل بلد وخصائصه.
1- اهتمام مراكز الدراسات الحالية بالقضايا الفكرية العلمية دون تقديم وصايا أو آليات تنفيذية تساعد المدراء التنفيذيين والعاملين في ممارسة أنشطتهم وبرامجهم الإصلاحية، فقد تجد مثلًا دراسة عن المرأة والمشكلات المتعلقة بها في مجتمع ما دون وضع معالجات واضحة ضمن تلك الدراسة، وقد ترفق معالجات لكنها سطحية يكون وجودها وعدمها سواء.
2- معظم المراكز تعد ناقلة للفكر وليست مراكز إنتاج للفكر، فالمهمة الرئيسة لمراكز الدراسات هي إنتاج فكر يساعد صانع القرار الإسلامي في رسم مشاريعه وتطوير خططه، ويتضمن إنتاج الفكر بطبيعة الحال إنتاج مفكرين وباحثين ذوي مؤهلات وقدرات فكرية عالية في مختلف التخصصات؛ ليتحولوا لاحقًا إلى قيادات فكرية تسهم بشكل مباشر في إدارة وقيادة المؤسسات الإسلامية، وظاهرة تحول الباحثين في مراكز الدراسات الاستراتيجية إلى قادة وصناع قرار مباشرين ليس أمرًا مستحدثًا؛ فذلك يعود إلى فترة الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان"، فقد عيّن ما يزيد عن 150 موظفًا من مراكز الأبحاث في مناصب حكومية مهمة.
3- ندرة الدراسات التي تتناول الحالة الراهنة، فمعظم الدراسات تأتي بعد انتهاء زمن الحادثة وانشغال الرأي العام وصانع القرار بقضايا وأحداث جديدة، وذلك يعود لعدم وجود بنك للمعلومات وغياب عمليات الرصد والجمع والأرشفة للأحداث في تلك المراكز، بحيث تساعد الباحث والمفكر في سرعة إنتاج المحتوى المطلوب في فترة قياسية تناسب حاجة صانع القرار الزمنية.
4- غالبًا ما يكون إنتاج مراكز الدراسات الإسلامية ذا تأثير على رأس الهرم دون الوصول إلى وسطه فضلًا عن وصولها إلى قاعدته، فهي مراكز ذات تأثير نخبوي لا جماهيري، وذلك يعود لعدم امتلاكها وسائل نشر جماهيرية كافية، كما أن أنشتطها الترويجية تعد ضعيفة، فالمؤتمرات والندوات التي تعقدها تلك المراكز محدودة وتشبيكها المنظم مع وسائل الإعلام يكاد يكون معدومًا.
ختامًا: فمراكز الدراسات أصبحت أحد المؤشرات الدالة على حضارة وتقدم الدول والمجتمعات، وغياب تأثيرها يزيد من احتمالية خطأ صناع القرار، وقد ندفع نتائج أخطاء تلك القرارات خسارة في الدماء والأموال والأوقات.
ونظرًا للغياب التام أو الجزئي لمراكز الدراسات الإسلامية بالمفهوم والدور المشار إليه، نرى ضرورة إنشاء مراكز دراسات فاعلة تسهم في تجاوز التعثر المتكرر الذي تعاني منه كثير من المؤسسات الإصلاحية بمختلف أحجامها وانتماءاتها الفكرية والجغرافية؛ نتيجة لغياب هذه القوة الفكرية الضابطة لسلوك المؤسسات الإسلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.