شعار قسم مدونات

الحرب على الإرهاب.. كيف انساقت الأمة نحو المحرقة؟

blogs - الإرهاب
هل ينتج العقل المسلم ما يتم الاصطلاح عليه في الأدبيات الإعلامية والسياسية خطاب التطرف؟ وهل حقا يملك المسلم اليوم مشروعا أيديولوجيا إرهابيا بصيغة كوكبية تهدد العالم؟ وهل يستساغ من الوجهة العلمية الرصينة الحديث عن وجود هذا الخطاب أصلا داخل المتن الثقافي العربي/الإسلامي مكتمل الملامح وبكينونة تامة التشكل والبنيان.. أم أن الأمر برمته لا يتعلق سوى بعملية تصفية "حضارية" جذرية يقوم بها الغرب لأجل التخلص من غريمه التاريخي المقلق؟

 

لذلك بتنا نرى هذا الغرب يجنح-عبر معاهده الاستراتيجية والعسكرية والتي هي بمثابة محاضن لتوليد الأفكار والرؤى الكونية- نحو صنع واختلاق هيكل متجانس على شاكلة ضميمة متواشجة من بعض الشذرات والمدونات الكتابية المتناثرة على طول فضاءاتنا الثقافية الشاسعة بامتداداتها الجغرافية من طنجة إلى جاكارتا، وتجميعها كي تكون مادة أولية لتشكيل متن "جهادي/إرهابي" مفترض ومتخيل، يتم الاعتماد عليه لأجل التأسيس لأطروحة "الحرب على الإرهاب" التي تفترض ضمنا وجود عدو قائم ينبغي مواجهته والقضاء عليه، وإلى خلق/تصنيع أو إبراز فيالق مسلحة ذوات منطق حربي صدامي، بملامح هوياتية مخصوصة ولغة عقدية وسحنات عربية/مسلمة.

 

أليس الأمر مجرد عملية استدراج كبرى تقوم بها دوائر صنع القرارات والرؤى الاستراتيجية الغربية، من أجل جر المسلمين -سواء كانوا يحملون هاته الصفة بالانتماء العقدي الأصيل، أو حتى بالانتماء الحضاري الواسع والجامع-إلى المذبح الإمبريالي المستكبر، حتى يكون النحر باسم تعويذات أيديولوجية جد مريحة كتلك التي أطلقها "فوكوياما" واعتنقها "المحافظون الجدد"، تعقبها تباشير فلسفية تمامية تهنئ الكوكب والبشرية بنبإ التخلص النهائي من الأشرار-المسلمون حصرا-كأسمى تجل للروح التلمودية الحاكمة لمجمل العقل السياسي الغربي، المستبطنة لموعود الانتصار النهائي لحملة أسفار الرب وأبنائه وأحبائه. هذا النصر الذي يمثل الخلاص النهائي المنتظر، بما هو صفقة "اصطفاء" عقدها "الإله" مع ملاك القوة وصناع المصائر وكتبة تاريخ رحلة الأرض.

 

إذا كانت صرعة "الإرهاب" بمقتضى النشوء قد صنعت كآلية تمكن الغرب من إعادة ضبط العالم وفق رؤية كوكبية جديدة، إلا أنها بقيت غير مستوية ولا مكتملة

إن قبولنا الضمني بلعب دور المعادل الأيديولوجي الأخير ضد منظومة الغرب المعولمة، لم يكن عملا حصيفا من جانبنا. فالغرب بعدما فرغت ساحة المواجهة في وجهه من جل الغرماء والأعداء وجد نفسه ملزما باختلاق عدو جديد، وفي هذا الخضم الهائج لم يجد من يمكنه أن يشغل تلك المهمة غير الجماعة المسلمة، ونحن كنا حطب المحرقة المفترض، نهرول-بلا تفكير في المطب ولا اهتمام بالمصائر-للانخراط المجنون في حملة الاجتثاث-مدفوعين إلى خوض منازلة مفروضة بمكر بروباغاندا تجييشية تتمنطق بفلسفة "صدام الحضارات"-وكأننا رضينا أن نكون بمثابة حائط صدام محشو بكل المتفجرات الهوياتية فوق سطح الكوكب بإزاء الرجل الغربي صاحب الشوكة والغلبة، وبكل ما يتحوزه من عدة فولاذية كافية لتدمير الكوكب آلاف المرات، أو بما تكتنز به خزانته المعرفية من فلسفات ونظريات ومناهج مدوخة للعقل من شدة تخالفاتها وتعارضاتها وغناها المفتوح على كل الاحتمالات، بدءا من مسلك التعقل والرشد إلى منافي الحيرة والتشكك والجنون والضياع.

 

لأنه بكل بساطة لم يكن يستهدف غير إشعال محرقة حضارية ضد العالم لأجل التمكين لنموذجه "الحضاري" الإمبريالي من اجتياح كل الأراضي التي لا تزال مجهولة من لدن راسمي خرائطه الكوكبية، أو باتجاه تلك الكتل والزمر البشرية التي لم تجتذبها بعد صورة الجنة الأرضية التي يمني بها هذا الغرب كل البشرية، بما هي دار للسعادة المقيمة والخلاص النهائي حسب تعاريفه المادية، ولم تستنر بعد برسالته الأنوارية، فهو لم يكن يبحث سوى عما يمكن أن يخلق في نفسه تلك الطاقة السحرية للعمل والاجتهاد، ومواصلة مسلسل الاستباحة، بعدما أحس بترهل خطير في مفاصله، وبعدما دب العياء إلى قواه العقلية والروحية ولم يعد يجد أمامه من يعيد إليه لياقته الذاتية.

 

تلك اللياقة التي لا تتولد سوى على قاعدة المناكفة والصراع ضد "المتوحشين" طبقا للفلسفة والقانون اللذين يولد من معينهما أجندات سيره، وخطاطات عمله، فكان والحالة هاته مدعوا وبإلحاح إلى إعادة خلق أو حتى اختلاق عدو بحجم خرافي/أسطوري، له كل ملامح التوحش والبربرية، ويتصف بشتى ألوان الانغلاق والجموح التي تستدعي ضرورة تفعيل أدوات الضبط وتقنيات الترويض..

 

فإذا كانت صرعة "الإرهاب" بمقتضى النشوء قد صنعت كآلية تمكن الغرب من إعادة ضبط العالم/صنع العالم وفق رؤية كوكبية جديدة، ومن أجل هندسة المجال الحيوي ومناطق النفوذ، وتخوم الحماية والحراسة، إلا أنها بقيت غير مستوية ولا مكتملة، ومن أجل صياغة محبوكة فإنه كان في حاجة وجودية بعدما اختمرت الفكرة واستوت إلى عدو بمواصفات خرافية، حتى ولو كانت مصطنعة ومفبركة، تليق بمنزلته "الحضارية" المتفردة، ولكن المأزق أن العالم قد صار محطما ولم يعد هناك من عدو واقعي يمكن أن ينازل ويجابه هذا الغرب.

وهنا عمل العقل الاستراتيجي الغربي على محاولة خلق/صنع عدو متوهم وافتراضي.. عدو يستطيع أن يعيد الرشاقة القتالية للترسانة الحربية المتوقفة والمحتاجة بشره إلى حصد الضحايا لأن فيض الدماء هو ما يحيي عروقها المتيبسة.. عدو يقدمه الغرب قربانا من أجل إرضاء غروره المجنون على مذبح عقيدة عولمية نفاثة، ويستعيد من خلال مقاتلته بعضا من لياقته المفقودة.. عدو يخلق لديه الحافز لأجل الاستمرار سيدا مبجلا يقود الكوكب.. عدو يملأ عليه لحظات الفراغ التي تذكره بقصة النهاية والموت وتستحثه كي يصلب عوده من جديد، ويحيي مفاصله المترهلة ليطرد عن تفكيره لحظات الشيخوخة الزاحفة.. عند هذه اللحظة التي يقف فيها الغرب في مواجهة المرآة وكأنه يغرق في فضاء سديمي يقتله الفراغ كان لا بد له من تدشين مرحلة الاحتراب الكوني..

 

هذا الأمر هو ما كان يراهن عليه كي يمد له في عمر رسالته الافتراضي مساحات زمنية أخرى، يقدم من خلالها ذاته ورسالته ونموذجه على أنهم يمثلون حاجة وجودية للبشرية لا يمكنها الاستغناء عنها أو التملص منها، مما يخلع على سعيه مسحة "الخلود" في دنيا البشر، وليتسربل خطابه في النهاية بصفة "التعالي" داخل عالم الفلسفات والأيديولوجيات والأفكار المحكوم أساسا بالنسبية والقصور.

التفجرات المدوية التي تجتاح العالم هي من صنائع الرجل الغربي المعتد بكراسته الأيديولوجية العنصرية بحيث لا يرى قياما للحياة خارج أطر تعاليم نبوءاته السياسية
التفجرات المدوية التي تجتاح العالم هي من صنائع الرجل الغربي المعتد بكراسته الأيديولوجية العنصرية بحيث لا يرى قياما للحياة خارج أطر تعاليم نبوءاته السياسية
 

لم تكن صرعة "الإرهاب" في نشوئها الأولي الملتبس لتدعو العقل المسلم إلى التشكك بإزائها، أو التساؤل حول ماهيتها وأهدافها، مما مكن مهندسيها من مواصلة تنفيذ خطوات استكمال المخطط العملاق الذي يستهدف في روحه ووصاياه احتواء المسلم وتطويق عالمه بكل تاريخه وجغرافيته، ومنظومة قيمه، وترويض نموذجه الحضاري المتسم بالمشاكسة، ولكي تكون عملية التمويه ناجحة تم إكساء أيديولوجية الصراع ضد عالم الإسلام، المطروحة بمكر وتحايل في صيغة مربكة تحمل عنوان "الحرب على الإرهاب" بلبوس أخلاقوية/إنسانوية يدعي أصحابها حمل مسؤولية الحفاظ على شروط العيش الإنساني المشترك حفظا لأمان الكوكب، وحفظ السلم البشري من سهام التهديد التي يوجهها مقاتلو التخوم الحضارية والهوامش المحرومة من بركات التمدن والتسامي، حيث تعشش الوحشية والهمجية المحصورة بشكل مقيد بين حدود المسلمين وفي داخل ديارهم.

 

إننا نقدم إلى العالم وفق منظار غربي تحكمه النرجسية المفرطة على شكل لعنة تلبست مسار التاريخ، وفي صورة شيطان يكيد للبشرية، وبأننا جنس لا يحمل بين جيناته غير بذور الشر المطلق، لكل ذلك صار لزاما أن نقدم قرابين على مذبح الدين العولمي الجديد.. وليس هذا الإخفاق الشامل الذي يضرب أركان الكوكب، سوى الحصاد المر للرؤية الذئبية التي يستبطنها المشروع المعولم الذي أراد الغرب من خلاله تشميل نموذجه فوق آفاق القرية الكوكبية، بما هو نمط قسري يجب إخضاع البشرية كلها لقالبه الجاهز، في مخالفة صريحة لأسس الاجتماع الإنساني التي بنيت عليها وحدة العائلة البشرية.

 

وإن كل هذه التفجرات المدوية التي تجتاح العالم هي من صنائع الرجل الغربي المعتد بكراسته الأيديولوجية العنصرية بحيث لا يرى قياما للحياة وتقدما للبشرية خارج أطر تعاليم نبوءاته السياسية وفي غير صحبة ديانته الرقمية الشاملة، فهو قد حول الحياة إلى قاع مخبري يمارس فيه تمريناته النفسية المريضة، وهو إذ يفعل ذلك إنما يصر على أن يصلي البشرية جحيمها قبل أن تقوم قيامتها، إنه مدفوع بحقد جنوني يستعذب التدمير، ويستلذ بصور الخرائب، لا يرى الإنسان أكثر من دمية بليدة تستحق أن تساق نحو المحرقة كي تكفر عن قدومها إلى حفلة الأسياد دونا عن رغبتهم الحاكمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.