لكن الاختلاف الذي وحد هذا البلد طوال تلك المدة والمتمركز أساسا على اختلاف ألسنة هذا الوطن فقد شكلت حقبات التاريخ المتتابعة تنوعا لسانيا في الجزائر فكانت الأمازيغية لغة أوائل أجدادنا والتي انبثقت منها عدة لهجات مازالت تعبر عن أعماقنا وذواتنا وجذورنا فتغنت أعالي جبال الأوراس باللهجة الشاوية واستمدت جرجرة لهجتها القبائلية من سحر مملكة نوميديا وعبر التوارق عن أنفسهم باللهجة التارقية، وعند دخول الإسلام منطقة المغرب القديم قدم اللسان العربي المبين لسكان شمال إفريقيا، ومنذ ذلك الوقت وهب الجزائريون العروبة هوية ودينا، وحافظو على موروثهم الثقافي الذي خلق لهم التآلف والأخوة، قبل أن تأتي فرنسا التي اغتصبت الأرض والعرض ولكن الإشكالية في الاحتلال الفرنسي لم تكن في هذا فقط بل حاولت أن تستعمر البلد ثقافيا، فنشرت سياسة "فرق تسد" ومن ثم سممت الثقافة المحلية وخاصة منها تلك المتعلقة باللغة لتنشر على حساب ذلك ثقافتها هي.
الأمر لم ينتهي هنا فبعد الاستقلال لم ينتبه من حملوا شعار العروبة آنذاك إلى ما تركت فرنسا من سم داخل هذا الجسد المنهك المتآكل الخلايا، ولم ينتبهوا لأن إهمالهم للغة الأمازيغية سيخلق شيئا من التفرقة العرقية في أوساط المجتمع، وقد يرجع هذا إما لضيق نظرتهم أو لمنهج أرادوا السير فيه مهما كلف الأمر، لتنتج بذلك بوادر الأزمة من الداخل فيما يسمى "الربيع الأمازيغي" نهاية الثمانينيات، وتقفز بعده القضية الأمازيغية لألسنة أصحاب القرار وحاشيتهم في الجزائر وتستعمل كورقة سياسية بامتياز خاصة عند اقتراب أي موعد انتخابي، وبعد الإصلاحات التي عرفها الدستور استقر الأمر على ترسيم لغة الأجداد وتم إعلانها لغة إجبارية في المدارس، والإشكالية هنا لا تكمن في اللغة فهي أداة يعبر بها أفراد المجتمع عن حاجاتهم ومشاعرهم بل إن قرار ترسيمها هو عين العقل وهو تدارك لخطأ ارتكبه من سبق هذه السلطة في الحكم، بل يكمن في طريقة ترسيمها وتوقيت ترسيمها وكيفيتها.
فالطريقة العشوائية التي يؤكد علماء اللسانيات أنها خاطئة تماما جرت شباب اليوم للانطلاق في حرب وهمية على صفحات شبكات التواصل تزداد رقعتها يوما بعد يوم ويبدو أن إشكالية ضيق البصر والبصيرة لدى حكامنا رعاهم الله لا تزال واردة، فالطب دائما يؤكد على ضرورة استئصال الورم من جذوره قبل أن ينتشر ونفقد السيطرة عليه وهذه القاعدة لا يزال يهملها صناع القرار في الجزائر وهم اليوم متجاهلون لهذا الشق الذي بدأ يطفو على السطح والذي يرجح أن تكون سياسة فرق تسد الفرنسية هي السبب الأول له وإن تم بهذه الصفة سيخلق أزمة هوية وثقافة في المجتمع الذي تربى بين أحضان أصالة اللغة الأمازيغية وفصاحة اللغة العربية، ليبقى السؤال المطروح متى يتعلم ساستنا أن الحكم الرشيد يكمن في بعد النظر وقراءة صفحات المستقبل البعيد؟ أم أنهم سيكتفون بمخططات خماسية وسداسية هدفها تطبيق المثل الشعبي القائل "تخطي راسي" إلى غاية أن يطبق المثل الشعبي الآخر "طاح الفاس فالراس".