شعار قسم مدونات

توفيق الحكيم ويوميات لوكيل نيابة في الأرياف

مدونات - فيلم يوميات نائب في الارياف
من أحب الروايات إلى قلبي، وأقربها إلى نفسي، رواية الرائع توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف"، وهذه الرواية من نوع الأدب الواقعي، فالكاتب كان وكيلا للنائب العام في مركز قروي في بداية حياته، والرواية عبارة عن تسجيل لبعض الأحداث الغريبة والمميزة والتي مرت به أثناء تأديته لعمله القانوني. رواية "يوميات نائب في الأرياف "تشتمل على تحقيقات جنائية قام بها توفيق الحكيم، ومعاينات لمسارح جرائم قتل، وحتى تشريح لجثث القتلى بعد نبش قبورهم، ولكن كل هذا ينتقل لنا بعد أن يمر على عدسة الأديب مرهف الحس الملاحظ والمحلل لما يدور في نفوس الناس من مشاعر وأحاسيس قد لا يراها أو يشعر بها غيره.
 
الشخصية التي لفتت انتباهي وشغلت تفكيري هي شخصية "عصفور" المجذوب ذو الكلام الملغز الذي تظل طوال الرواية لا تدري هل هو عاقل أم مجنون، قاتل مجرم، أم منقذ للبسطاء من أنياب العتاة. ومن أهم المواقف التي علقت في ذهني منذ قراءتي الأولى لهذه الرواية، عندما قدم إلى توفيق الحكيم بلاغا يشكك في الطريقة التي قتلت بها زوجة شابة، من المفترض أنها ماتت بصورة طبيعية، وقد كتب المبلغ المجهول في الرسالة التي أرسلها أن المرأة قتلت عن طريق الخنق، فقرر توفيق الحكيم أن يقوم بتشريح الجثة، فإن كان العظم اللامي الموجود بالرقبة مكسورا، فقد صدق المبلغ، ويجب عند ذلك إعادة فتح باب التحقيق للقبض على الجاني.
 

بالفعل اصطحب توفيق الحكيم حكيما إلى المقابر، وبدأ حفار القبور في نبش القبر ليخرج الجثة، بعد أن أمر توفيق السائق الذي اصطحابهما بالابتعاد، شفقة عليه مما سيجري، أخرج حفار القبور جسدا مكفنا وانتشرت الرائحة الرهيبة لتحلل الجسم البشري في المكان، تقدم الطبيب إلى الجثمان المسجى وبمجرد أن كشف الكفن نهر الحفار وشتمه ثم أخبره أن يرفع جسد الرجل الذي أحضره. ويبحث عن الجثة المطلوبة. وبالفعل أخرج حفار القبور جسدا أخر من القبر، ووضعه أمام الطبيب وقال بيقين هذا هو الجسد المطلوب، كشف الطبيب الكفن وأخذ يعمل أدواته في الجسد المتحلل، ويملي ملاحظاته على توفيق، إلا أنهم فوجئوا بصرخة رعب تنبعث من فوق رؤوسهم، فنظروا برعب إلى مصدر الصرخة، فإذا هو السائق وقد غلبه فضوله، فلم يستطع تنفيذ أوامر توفيق الحكيم بالابتعاد عن القبور، فتسلق الشجر المتشابك فوق القبر ليتفرج على ما سيحدث إلا أنه بوغت من هول المنظر الذي رأى. توقف توفيق الحكيم طويلا أمام تباين مشاعره هو والطبيب عن مشاعر السائق، وأخذ يسأل نفسه لماذا صدم السائق؟ هل هذه هي مشاعر الإنسان عندما يرى نهاية جسده الفاني، أما هذه هي الصدمة التي يصدمها المرء عندما يتذكر حقيقة الموت التي كان يغفل عنها، وتساءل عن الذي حدث لقلبه هو والطبيب، هل أمات التعود على رؤية الجثث وتشريحها شيء في قلبه.

  undefined

 

الموقف الآخر الذي أتذكره كلما حدثت انتخابات في بلادنا العربية هو وصف المأمور عن طريقته في إجراء انتخابات نزيهة بدون عنف، عندما قال لوكيل النائب العام توفيق الحكيم أنه لا يحبذ إجبار الأهالي على مرشح الحكومة كما يفعل غيره من مأموري مراكز الشرطة، لكنه يدع لناخبين يدلون بأصواتهم في حرية تامة، دون ضغط أو إكراه، ثم يغلق الصناديق عند انتهاء الوقت، ويقوم بإلقائها في الترعة ثم يبعث لمراكز الفرز الصناديق التي قد أعدها سلفا، والتي توافق تماما أوامر قادته، لتنتهي عملية الانتخابات بنظافة وهدوء الأمر الذي يميزه عن غيره عند رؤسائه.

 

الكتاب -على صغر حجمه- ملئ بالمواقف الإنسانية العميقة للغاية، والتي يصوغها الكاتب بأسلوب رائع بسيط يغلب فيه الحس الفكاهي، ولولا خوفي من الإطالة عليك عزيزي القارئ لذكرت موقفا آخر من مواقف الرواية، ولكني أظن أنك من الهمة بحيث لا تحتاج إلى سردي لأفضل ما لفت نظري، لأنك ستبادر بقراءة يوميات وكيل النائب العام توفيق الحكيم في الأرياف.