شعار قسم مدونات

كنت بينكم قبل قليل.. جولة أخيرة للشهداء!

مدونات - شهيد غزة

كنتُ بينكم قبلَ قليل!
سيقولُ الشهيد، وستخرجُ الكلماتُ من فمهِ بلطفٍ هوائيٍّ شديد، يكاد يكونُ موسيقى خافتة، وسننصتُ جميعًا لنسمعَها بما يشبهُ الحواس، ويتمهَّلُ كثيرًا قبلَ أن يتجاوزَ السماء التي نعرِفُها، وسيقرر أن يأخذَ جولةً أخيرةً قبلَ الوداع! وسيهبطُ بهدوء ملائكيٍّ ويمرُّ بيننا، سنحسُّ برائحةٍ فردوسية تتدفقُ من اللامكان، ونلتفتُ حولنا بغرابة ونتساءل من أينَ تأتي وكيفَ تنبعثُ من هذا الحزن؟

 

سيقبُّلُ جبينَ والدتهِ ستشعرُ بلمسة دافئة تحطُّ على جبهتها، بكهرباء لحظية في وجهها، سلتلمسُ وجهها ولن تجد سوى دموع الفقد التي تنضجُ بحرقة في وجهها! سيرتبُ منديلها الأعوجَ ويدخلُ شعراتها التي تملَّصت أثناء الشهيق المتلاحق، ويأخذُ ضمةً طويلة وستشعرُ الأمُّ بأنها دخلت لثوانٍ في غيبوبةٍ دافئة، ويسيتقظُ فيها اشتهاءُ الأمومة بكامل تفاصيله وتبحثُ عن جسدٍ لتحتضنه فلا تجدُ سوى الهواء!

 

وعندما تكبر وتصاب بكلِّ أمراض الذاكرة وتنسى كلَّ شيء ستتذكر الوردة التي قطفوها من حجرها، ستتذكر اسمهُ جيِّدا وتتذكرُ تلكَ القبلةَ الأخيرة. وسيمرُّ على زوجته سيمسكُ يدها ويمرر أصابعهُ بينَ أصابعَها، ويحيطُ ذراعهُ بجسدها المرتعش، ويمسحُ على رأسها وهيَ ستحاولُ أن تشبعَ من وجهه في الصورة أمامها، ستحاول أن تسمعهُ وهوَ يضحك، وأن تستدعي هذهِ الذكرى التي جعلتهُ ينظرُ إليها هكذا في الصورة، وسيتجسدُ أمامها كالسحر ويفلتُ أصابِعها التي تتعربشُ بأصابعه، كي لا تتعلقَ بهِ أكثر فسيحَبَها معهُ بقوة الحب لا أكثر!

 

وستتركُ نفسها في الأرض وتلاحقهُ سيتسابقان والذكريات الجميلة تكركر حولَهما، ثمَّ سينظرُ لها بحزن، ويومضَ بسرعة وينفلتَ من عيونها ويختفي كفقاعة صابونٍ ناعمة! سيحتضنُ طفلهُ الصغير، ذلك المخلوق القطني الذي انتظرهُ لسنوات ليأتي، كقطعة نورٍ سيصفعها القدر باليتم بقية عمرها، ولن يعرف من ملامحِ والده ربَّما سوى تلكَ الشامة الوحيدة التي استعارَها منه عِندما احتضنهُ في لحظات الوداع!

  undefined

 

سيمرُّ على إخوته وأصدقائه وسيجلسُ بجانبهم، سيسرقُ قطعةَ خبزٍ على الإفطار ويضحك وستظلُّ مفقودةً في كلِّ افطار، في كلِّ صباح ولن يسأل عنها أحد لأنَّهم يعرفون كيفَ يشتاقُ الشهيد أحيانًا للمة العائلة ولطعامهم ولأنها حصته التي يأخذُها كلَّما أخطأوا ونادو اسمهُ ليأكلَ معهم، فتحضرُ بدلًا منهُ القشعريرة والذكريات! وسيأخذُ قطعةَ الثياب التي كانَ يأخذُها دائمًا من أخيهِ بدون علمه، ولن يسألَ أخوهُ عنها لأنَّها تحوَّلت الآن لقطعةِ سندسٍ واستبرق! وسيلبسُ قبعةَ التخرج ويجلسُ وحدهُ على منصة التتويج، وسيلبسُ بذلةَ عرسهِ ويقفُ أمامَ الجميع وهم يزفونه، يزفونه وحده بعرسٍ سماويٍ باذج! وسيلتقطُ صورةً أخيرة بالكاميرا، وسيقولُ كلمة حبٍّ أخيرة من وراء الميكرفون، وسيلقي قصيدةً أخيرةً أمامَ الحضور، وسيضعُ يدهُ للمرة الأخيرة على كتفِ أخته، وعلى كتفِ أخيه، سيغلِّفُ هديةً أخيرةً لصديقه، ويكتبُ منشورًا أخيرًا على صفحته الشخصية.

 

وسيحضرُ ولادةَ زوجته، وعرسَ أخته، ونجاحَ أخيه، وأوَّل افطارٍ في رمضان، سيحاولُ أن يشبعَ من الجميع في ثوانٍ قليلة، ثمَّ سيعتذر! سيتعذرُ منَّا لأنَّهُ تأخر كثيرًا، ويجب عليهِ اللحاق بالحياة الأبدية! سيودعنا ثمَّ يرفرفُ للأعلى، سيطيرُ عبرَ ممرٍ ضوئيٍ مبهر، وعندما يصل سيشعُّ للأبد، سيقول الجميع أنَّ النجوم الليلةَ أكثر من المعتاد، ولن يتساءَلوا كيفَ زادَ عددها هذا اليوم بذات! سيعلمونَ أنَّ لكلِّ نجمةٍ منها قصة كاملة، قصة إنسان عاش يومًا على الأرض كانَ لهُ أهل، وأصدقاء، وذكريات لا زالت تنبتُ مثلَ الشجر المعمِّر في كلِّ الأفئدة، وسينظرونَ للأعلى كلَّما اشتاقوا لهم، وربَّما سيبكونَ كثيرًا وهم يعدِّونَ موائدَ الذاكرة، وهم يرتبونَ ثياب مشاعرهم، وهم يجهِّزونَ أنفسهم لمناسباتهم السعيدة والحزينة، ويتحسسونَ ثيابهم وعطورهم وصورهم، وأسرَّتهم المرتبة والفارغة، وفي كلِّ يوم سيتفقَّدون أسماءهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعيدون تصفَّح حساباتهم ربَّما وجدوا جملةً جديدة، أو عبارة لم تقرأ بعد! أو لم يحفظوها!

 

وفي نهاية كل يوم، سينامون وتستيقظُ عقارب الساعة، وتقرأ عليهم وردها اليوميَّ من الذكريات والوجع، وسينظرونَ للأعلى، ويرونَ تلكَ النجوم التي تشعُّ بقوة، ولن يتساءَلوا لماذا تبدو هذهِ النجوم أشدَّ لمعانًا من غيرها؟ سيحفظون فقط أسماءَ الشهداء وقصصهم، وتاريخَ هذا اليوم جيدًا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.