شعار قسم مدونات

الفصائلية.. مرحلة ما قبل الثورة

blogs - من الجيش الحر السوري

رغم كثرة خلاف السوريين اليوم على أي قضية توضع على طاولة الحوار إلا أنه لا يختلف سوريان على أن الفصائلية كانت ولا تزال من أبرز العقبات لنجاح الثورة السورية وكأننا كسوريين لم نرَ مصير القضية الفلسطينية وقد أصبحت كرة متقاذفة في ملعب السياسة. والقضايا متى ما تنازعت على نصرتها الفرق تمزقت تمزق الفرقاء وتحولت مع الزمن من غاية للنضال إلى وسيلة تمكنٍ للفصائل.

 

وتعتبر أقرب ثورة شعبية ناجحة من حيث الزمان ثورة البشرة السوداء في جنوب أفريقيا ضد نظام التمييز العنصري الذي حقّر من شأن الزنوج والملونين ورفع من قدر البيض ذويي الأصول البريطانية فيها وبقراءة تاريخية سريعة لتلك الثورة التي لم تنطفئ شعلتها طيلة أربعين عاماً تقريباً سنلاحظ أنها ظلت ثورة واحدة ترفع شعاراً واحداً على قلب رجل واحد لم تفرقها مطامع ولا إديولوجيا طيلة تلك الأعوام على الرغم من أن المواطنين السود في تلك الفترة كانوا ممنوعين من التعلم والدارسة وأغلبهم أميّ لا يجيد القراءة ولا الاطلاع على تجارب الثورات الأخرى ولا الاستفادة من دروس التاريخ ولكن إصرارهم النابع من عقيدة صلبة وإيمان فطري بلغ حد اليقين بعدالة قضيتهم جعل النصر أمراً محتوماً لثورتهم بشقيها المدني والعسكري دون الحاجة لنشاطات التثقيف الثوري أو التمكين العقائدي وهذا لا يعني أن جنوب أفريقيا كانت كلها بمواقف ثورية متطابقة خلال الثورة لكن كانت الثورة بالنسبة لهم كسفينة البحر التائهة إما أن يتفق أهلها على طريقة حكيمة لقيادة دفتها أو تلتهم عواصف البحر ولا تترك لهم أثراً ولا مخبر.

  

إن دور التجمعات والنوادي الفكرية والإديولوجية يعتبر مهماً جداً في مرحلة ما قبل الثورة حيث تكون هذه النوادي الثقافية منظمة بطريقة تستطيع أن تنشط بشكل آمن ومحمي نوعاً ما في ظل استمرار الملاحقات الأمنية من قبل الأنظمة الاستبدادية وتعتبر النخبوية المفترضة لأعضائها عاملاً مهماً في جذب الناس للقضية وتوعيتهم بها وأذكر أبداً ما كتبه نيلسون مانديلا حول أكبر التحديات التي واجهت ثورته في البدايات والتي كانت في إقناع الأسود والملون أن له الحق في المساواة وكذلك الأمر في الشأن السوري فكم تعرض النشطاء المدنيون والمناصرون لحقوق الإنسان للضغوط الأمنية والاعتقال والتنكيل والتعذيب والاغتيال من أجل إقناع الناس بفرص نجاح نضالهم وأن ثورة شعبية ما قادرة على اجتثاث النظام من جذوره إن كانت رياح التغيير في المنطقة تميل لصالحها. ولكن ما إن تقوم الثورات حتى ينتهي عمل تلك النوادي وغرضها وتعتبر عائقاً كبيراً في تقدمها وبراءتها حتى يكتب النصر المبين لها.

 

أكثر ما يجب الاشتغال به اليوم هو البحث في احتمالات التكيّف مع الحالة الراهنة والاستفادة بالحدود القصوى من فرص توحيد قبلة البنادق والحفاظ على الأفراد والتركيز والاهتمام الأكثر بتطورات العمل السياسي

ولعل الأسباب الداخلية لقبول قادة الثورة السورية في أول الأمر بالتشظي الفصائلي لا تحصر في مقال صغير كهذا ولكن كان من أبرزها إعجاب السوريون لفترة طويلة من الزمن بالبروباغاندا الدعائية لتجربتي حماس وحزب الله والتي تصور القادة على أنهم أسماء سيخلدها التاريخ وتحكي عنهم قصص الأطفال وكتب المدارس لعقود طويلة بالإضافة إلى اعتقاد أكثرهم أن أيام النظام باتت معدودة كما لم تتوقف أركوزات السياسة الغربية على التصريح بها وكأن الغرب يعني ما يقول حقاً وظن أولئك أن وجود فصيل منظم وقوي سيجعل كل المجتمع الدولي بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية وحتى غامبيا الأفريقية يتهافتون من أجل خطبة ودهم ودعمهم ليسدوا فراغ السلطة وهذا إن دل فيدل على سذاجة المنظرين للفرز الفصائلي وسطحية تجرتهم ولا أسوق الأدلة على ذلك إلا أن أدعو إلى النظر لواقع الثورة اليوم فلم يحصلوا على مجد خالد ولم يتبوؤوا مقاعد الرياسة والقيادة وأصبحت الفصائل اليوم محاصرة مجتمعياً وعسكريا وأمنياً وأضيق حصار مطبق على أطرافها هو حصار الفشل والخسارة العسكرية التي منيت بها حتى يومنا هذا.

 

بالطبع ساعد وعزز وفتح الطريق أمام الأمراض النفسية وجشع السلطة والسيطرة والمال لدى بعض القيادات الثورية في البدايات قلة الموارد الثورية والدعم المشروط وتهرب القادة من المسائلة عبر التدرع خلف فصائلية إديولوجية وعشائرية تبرر الزلات وتجمل الفعائل إلا أن الخلاف الإديولوجي وبكل تأكيد لم يكن سبباً في ذلك أغلب الأحيان كما يدعي القادة إنما كان وسيلة لحشد الجمهور والأنصار وإسدال الستائر عن الأعين والقلوب التي عميت عن رؤية واقع الثورة العسكري المتراجع يوماً بعد يوم.

 

وقد مرت الفصائل على مر ثورة الكرامة بالكثير من التغييرات الفكرية والقيادية وتغييرات في الأهداف والأدوات وهذا إن دل فإنه يدل على أن الفصائل السورية عبارة عن تجمعات مقاتلة تسعى نحو الفصائلية أكثر من كونها كما تدعي فصائل وحركات حقيقية سعت خلال هذه المراحل لمرات متتالية بتجربة الاندماج بعد أن بلغت الفرقة فيهم حد العظم وأصبحت مكاسب الفرقة لدى البعض أولى من المكاسب الثورية ففشلت كل تجارب الالتقاء وأصبح التفاوض مع العدو والاتفاق معه كما في اتفاق المدن الأربعة واتفاقيات الاستسلام والتهجير القسري أسهل من اتفاق إخوة الثورة والمصير فالاندماج يحتاج إلى تنازل إديولوجي كبير سيجعل من عناصر الفصائل المزعومة التي تم تربيتها إديولوجياً على مر سنوات تنفضّ من حول قياداتها بمجرد أن ترى منها تخلي بسيط عن الاديولوجيا الفصائلية وعقدة الفرقة الناجية والاندماج أيضا يتطلب تنازل حقيقي في القيادة ينزع الحصانة عن القادة ويدعوهم إلى التخلي عن أحلام الصغار في الرياسة هذه المرحلة كحد أدنى فضلاً عن أن تجارب الالتقاء كانت أشبه بلصق أجزاء مختلفة أو تركيب قطع البزل غير المتكاملة وعدم الشعور بالحاجة والضرورة لذلك بعد طمع كل فريق بمعسول الوعود من داعميه الذين لا يرون فيه أكثر من ورقة سياسية على طاولة القمار التفاوضي.

 

ختاماً: لا أظن أنه بالإمكان تغيير الكثير اليوم فالنفوس أوغلت بالتنافس الفصائلي والثقة بينهم أصبحت كصورة بيضاء وسوداء مغبرة مرمية في غرفة الخرداوات والقادة تورطوا أكثر في الأمر والداعمين لهم ازدادوا عداءً فيما بينهم ولكن أكثر ما يجب الاشتغال به اليوم شعبياً ونخبوياً هو البحث في احتمالات التكيّف مع الحالة الراهنة والاستفادة بالحدود القصوى من فرص توحيد قبلة البنادق والحفاظ على الأفراد والتركيز والاهتمام الأكثر بتطورات العمل السياسي والتفاوضي فالمرحلة القائمة الآن هي مرحلة تنظيف جيوب الملف العسكري بشكل ما فهوامش الإنجاز العسكري أصبحت ضيقة على الجميع والانتقال إلى طاولة المفاوضات الدولية والإقليمية والمحلية هو مآل الحال وآخر جولات الحرب السورية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.