شعار قسم مدونات

البُعد الرِّسالي في الوُجود الإنساني

blogs إنسان

في هندسة مشروع الحياة على المعمورة، جعل الله من سننه الربَّانية أن تقوم معادلة الوجود الإنساني بمتغيرين أساسيين مادي جسدي ومعنوي روحاني. كما أوجب واقع التطور البشري بِبُعديه المعنوي والمادي أن يتفاعل المتغيران في البيئة الكونية المحيطة بمعادلة التَّأثِير والتَّأثُر. فكما لا تقوم الروح إلا بشرط تلاحمها بالجسد، لا يحيا الجسد إلا بلزوم سكون الروح فيه. لقد جعل الله تعالى من ابتلاءات الإنسان واختباراته أن يسعى ويجتهد ويُفكر ويَتجدَّد في تنمية وتطوير كلا المتغيرين بناءً على معطيات محيطة اتصفت بالمادية والمعنوية أيضا. فتفاعلات الإنسان مع الإنسان في بُعدها الاجتماعي الأخلاقي لها من الـتأثير ما يُحيي أخلاق البشر أو يقتلها. كما أن احتكاك الإنسان بمادية الحياة وصورتها له من الوَقْعِ ما قد يُربِّي سلوكات الإنسان أو يفسدها.

 

في هذا السِّياق الذي يشخِّص البُعد المادي المعنوي للوجود الإنساني، تظهر الحاجة أيضا إلى الفصل والتبيين في اتجاهات الإنسان الخَيِّرة والشِّريرة في تعاملاته وتفاعلاته مع وجوده المعنوي والمادي. ما يقود إلى النتيجة الحتمية من خلاصةِ ونتيجةِ وجودِ الإنسان في حلبة صراعه وما مدى تأثيره فيها بترجمة كيانه إلى معنويٍ رساليٍ بنَّاءٍ أو ماديٍ حيوانيٍ هدَّامٍ. إن فهم الحضور الإنساني باحتكاكاته المادية المشتركة بين كل البشر وتفاعلاته المعنوية الأخلاقية الهادفة عندما ينفرد بها ثلةٌ من خِيرةِ صفوةِ البشر، يستوجب النظر بعين البصر والتمعُّن بنور البصيرة، ففهم الوجود عند من يدرك ببصيرته يتباين عن فهم من لا يتعدى النظر عنده العين إلى العقل. لأن من ينظر بعيني رأسه يرى وجودك في الحيِّز الهوائي الذي يشغله جسدك، أما من ينظر بعيني عقله فيرى وجودك في الحيِّز الرسالي الهادف الذي تشغله همَّتك وطموحاتك وأخلاقك وقيمك وأهدافك.

من المؤشرات الدَّالة على وجودك الرسالي أن يرتقي فهمك إلى درجة التعامل مع الجسد والماديات من حوله على أنها وسائل محددة الزمن تنتهي مهمتها

بهذا الفهم الدقيق العميق للوجود الإنساني تستوجب المسؤولية الاستخلافية للإنسان على الأرض أن يكون حاملا لمشروع رسالي هادف حتى يُثبت وجوده كعنصر مؤثر في معادلة سياسة الحياة. إن البذرة والثمرة المعنوية الرسالية التي قد تتركها بعد غياب جسدك عن سطح الأرض إلى باطنها ستبقى حية فعالة مؤثرة شاهدة لا تموت، بل تصنع منك قدوة للعارفين لا عبرة لهم. أما قصورك وكنوزك إن لم تستعملها وتستشعر فيها النية الرسالية غادرتها قبل أن تغادرك، وقد صَنَعَتْ منك تمثالا عِبرة للناس لا قدوة لهم.

 

ولنا في رسالية نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ومادية قومه ورسالية موسى عليه السلام ومادية قارون ورسالية إبراهيم عليه السلام ومادية النمرود العبرة والعظة. فاستشعر حضورك على المعمورة بما ستقدمه كرسالة لا بدبيبك على الأرض أو ما تملكه من مال وجاه وسيادة. فقد حدَّث التاريخ المجرِّب الحاضر والمستقبل حتى لا ينخدعا، أن وجودك بما ساهمت فأفدت البشرية، أن حضورك بما قدَّمت فأنقذت الإنسانية، وأن الحياة حياة الروح بفعاليتها الهادفة، وأن الجيفة من لا رسالة له، لا مشروع له، لا طموح له، لا هدف نبيل له، حتى وإن عاش بجسدٍ والرُّوح فيه.

دخلت الصف لأُدرِّس مادة الكيمياء لطلبة السنة الأولى جامعي. كنت أدرك التيه والضبابية التي يعيشها الشاب الجزائري وهو في المرحلة الجامعية، فسألت الطلبة سؤالا سهلا سطحيا مباشرا في نظرهم، صعبا عميقا غير مباشر في نظري، من أنتَ ومن أنتِ؟ ورقة صغيرة واكتب الجواب. لسهولة وسطحية ومباشرة السؤال، استغرب الطلبة من السائل وسؤاله.

 

من هذا؟ ماذا يريد أن يقول؟ وما علاقة مادة الكيمياء بمن أنتَ ومن أنتِ؟. بعد مدة قصيرة جمعت الأوراق فوجدت أن نسبة عشرة بالمائة فقط عرفوا الجواب. وفي الغد وصلتني رسالة من طالبة في الفصل كانت ممن عرف الجواب الصحيح تقول في رسالتها: "طُرح علينا سؤال في مقياس الكيمياء. من تكون؟! أو من تكونين؟! ذهل الجميع بالسؤال … وكذا أنا. سؤال كهذا يكون في مادة الكيمياء. أو لم يجد أن يكون في مقياس الفلسفة! إلاَّ أن الجميع ألَّف من تلك الدقائق ملحمة ضحك وهزل. أما أنا، ذَاك السؤال انتشلني من تلك الدقائق إلى مستقبلي المسطر والذي أهملته بسبب بؤس وتشوش فكري.

كن رساليا في مخبرك في تعاملاتك مع صنوف المعرفة وتخصصاتها في البيولوجيا والكيمياء والطب والفيزياء وأنت تستشعر خِدمتك للبشرية قبل راتبك الشهري
كن رساليا في مخبرك في تعاملاتك مع صنوف المعرفة وتخصصاتها في البيولوجيا والكيمياء والطب والفيزياء وأنت تستشعر خِدمتك للبشرية قبل راتبك الشهري
 

هذا السؤال لديه أجوبة فلسفية وأُخرى التي نعرفها إثم …ولقب.. رغم أن ذهولي أخرسني إلا أني علمت مقصد الأستاذ بهذا السؤال. كأنه يقول أروني أفكاركم، مذهبكم، طموحاتكم المسطرة، كما قلتَ أنت يا أستاذ أن وجودك هو بأفكارك وما تقدمه للبشرية …وجودك هو أن ترسم هدفك لتسعى إليه. وليس أن تعيش هائما بين الورى مبتغاك الأسمى أن تأكل وتنام. أشكرك يا أستاذ على هذه التجربة. أتطلع لأتعلم منك" انتهت رسالتها.

إن من المؤشرات الدَّالة على وجودك الرسالي أن يرتقي فهمك إلى درجة التعامل مع الجسد والماديات من حوله على أنها وسائل محددة الزمن تنتهي مهمتها وقد ساهمت في الإضافة المعنوية الرسالية التي قدَّمتها لحاضرك ومستقبل أمَّتك. كما أن من مؤشرات وجودك المادي من دون عنوانٍ رسالي أن يتركَّز استثمارُك في جسدك وما حوله من ماديات بمنهجٍ حيوانيٍ غرائزيٍ هدّام. فلا ترى في جسدك سوى مشربًا للشهوة وما حولك منبعًا لها. 

فاعمل على أن تتحرك طاقاتك المادية بتوجيهٍ من أفكارك الرسالية في سبيل ترك الأثر الحميد الذي يبقى ما بقيت السماوات والأرض. وكن رساليا في مخبرك في تعاملاتك مع صنوف المعرفة وتخصصاتها في البيولوجيا والكيمياء والطب والفيزياء وأنت تستشعر خِدمتك للبشرية قبل راتبك الشهري. كن رساليا وأنت تمارس السياسة والتعليم والاقتصاد وأنت تستشعر إضافتك للإنسانية قبل شُهرتك أو ما تجنيه من مال وجاه. كن رساليا وأنت تقود مشاريعك التطوعية وأنت تستشعر حاجة المعوز الفقير الضعيف المسكين وما قد تفعله ابتسامة قد ترسمها بنيتك الرسالية في وجهه. فحاول أن تكون رساليا في كل ممارساتك وخطواتك فمن فهم الرسالية بعمقها فهم سر السعادة وحقيقتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.