في فجر الثامن عشر من إبريل، استيقظت على نحيب أمي، خرجت إلى صالة المنزل، وجدته مستلقي في هدوء، كأن الكون كله توقف في هذه اللحظة، لم استوعب ما كان يحدث، بكاء ونحيب وتوتر، كأن غيمة من البؤس أحاطت بنا من كلِ جانب! أبي أخذ يذهب ويَجيء باحثًا عن شهادة ميلاد الصغير، لم يبلغ من العمر عِقدًا، كما أننا احتفلنا بعيد مولده منذ أقل من شهر. لم يكن هناك أي إثبات لوجوده غير شهادة ميلاد، لا بطاقة شخصية ولا إيصال شراء هاتف محمول ولا حتى جواب إنذار بالفصل، فقط شهادة ميلاد، سوف يتم نفي وجودها في خلال ساعات.
بعد أن وجدها، هاتف عمي، وطلب منه أن يستعد حتى يذهبا معًا لإعلان انتهاء حياة أخي الصغير رسميًا. ظلت أمي تبكي بهستيريا كأن جزء من روحها قد مات مع الصغير، أما أنا فلم أفعل أي شيء سوى الجلوس صامتة بلا حراك، لم أبكِ، لم أصرخ، فقط تطلعت إلى وجوههم في صمت. بعد أن أشرقت الشمس، استدركت أمي الموقف، وأخذت الصغير للغرفة حتى ينعَم بميتة هادئة دون صخب الأهل والأقارب، أما أنا فذهبت إلى عملي كأن شيئا لم يكن، وكأن هدوء أخي بالغرفة ما هو إلا نومٍ عميق، سوف أعود من العمل لأجده قد استيقظ وقد غرق يلهو بألعابه أو حتى يُنهي واجباته.
هاتفني أبي طالبًا مني إحضار بعضًا من البن من أجل عزاء الصغير، ثم راسلتنى أختي إلكترونيًا مستنكرة استغراقي كل هذا الوقت في العمل على غير العادة، ولكنها لا تعلم أنني لم أذهب، لم أستطع مواجهة نظرات الحسرة والشفقة في عيون زملائي، فقررت أن آخذ خطوة عملية وأُزيح من علي كاهل أبي هَم مكان دفن الصغير. ذهبت إلى الفيوم، كنت قد اشتريت مقبرة تكفي لدفن 3 أشخاص بعد أن أدخرت مبلغًا ليس بسيء من عملي طوال الخمس سنوات الماضية.
مر أول يوم، كانت أمي تبكي بالساعات ثم فجأه تتوقف، ثم تعود للبكاء ثانية بعد أن تتذكر كيف كان، وماذا كان يحب، وكيف كان يمشى ويجري ويضحك ويغني ويبكي |
اتفقت مع حارس المقابر، وحليت ثغرِه بقليل من المال، ثم مشيتُ قليلا إلى الطريق العام وركبت حافلة توصلني إلى وسط القاهرة. بعد أن وصلت، مشيت قليلًا حتى بلغت بائع البُن، صديق والدي، الذى رمقني بنظرة غريبة وكأنه يقول: "ماذا بها، لقد مات أخيها منذ ساعات ولا يوجد على وجهها أي علامة للحزن!"، لم أهتم، فقط طلبت منه ما يطلبه والدي عادة، وأعطيته حقه وانصرفت، لم ألقِ عليه التحية حتى!
وصلت على عتبة المنزل، ولكنه لم يكن منزلنا الذي أعتدته، كان صوت الشيخ يصل لكل بيتٍ في محيط حارتنا، كان صدى نحيب جدتي وأمي يسمع الأصم، كان يجلجل الروح، إذا حدث وسمعته أنت لتمنيت أن تُزهق روحك أو تنشق الجبال وتبتلعك حيًا، كان الوضع غريبًا، أحضان تحطم الضلوع، قُبلات على وجنتاي مشبعة بالمخاط واللُعاب مما جعلني أتمنى انشقاق الجبال فعلا!
أختي المسكينة كانت منهمكة في تحضير القهوة للضيوف، وظل أبي جالسًا في صمت وسط إخوانه وأصدقائه، بينما كانت أمي جالسة بجوار جدتي تنعي وفاة الصغير. ولكن أين هو؟ أين أخي لماذا لا يلعب ويصيح مثلما يفعل كل يوم؟ لماذا حقيبته موضوعة بهذا الشكل؟ هو لا يحب أن يضعها هكذا؟! نعم، لقد تذكرت، ذهب الصغير. ناديت أبي وأعلمته بمكانِ المدفن، وأعطيته نسخة من مفتاحه، ثم عدت لأجلس كما يجلسون في مثل هذه المواقف، صامتة تعلو وجهي نظرة من البلاهة.
مر أول يوم، كانت أمي تبكي بالساعات ثم فجأه تتوقف، ثم تعود للبكاء ثانية بعد أن تتذكر كيف كان، وماذا كان يحب، وكيف كان يمشى ويجري ويضحك ويغني ويبكي. كان الصغير صغيرا شقيًا، كان القلب النابض لبيتِ كالجسد المتهالك، ونعم، كان يحب البطاطا المقلية كثيرًا، كان يمشي ويضحك كعادة أي صغير مليء بالحياة، كان عندما يبكي، تبكي معه السماء.
مر شهر، لم أبكٍ فيه ولو مرة، وكعادتي، كان يجب أن آخذ خطوة عملية، فقررت أن أرتب المنزل وأن أفرغ الدولاب من ملابس الصغير والتبرع بها للأيتام، مثلما ذهبت من شهر لأطمئن على مكان دفنه. وأنا أفرغ الدولاب، وجدت ورقة صغيرة كان قد خبأها في معطفه الشتوي وقد كتب فيها: "أنا أحب أختي الكبيرة جدًا، ولكنها دائما بعيدة، دائمًا هاربة من شيءِ ما". انفجرت باكية كأن الدموع كانت ستنفذ من العالم إذا لم أبكِ في هذه اللحظة؛ كان صغيرًا، صغيرا جدًا، ولكنه كان يشعر بما نحن عاجزين عن التعبير عنه، كان يعلم أني دائما أهرب، لكنه ظل يحبني رغم كل شيء، ظل يُحبني حتى مات وحيدًا!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.