كنَّا طٌلاباً في جامعة الأزهر بكلية اللغات والترجمة، وكان يُحاضِرنا دكتور بريطاني، كان حديث عهدٍ بالإسلام، اسمه/ "إدريس توفيق" كان قِسَّاً كبيراً بالفاتيكان، فضلاً عن كونِه مدرساً للأديان بالمدارس البريطانية، وفي أول محاضرةٍ له حكَى لنا قصة إسلامه، وكان خلال سَردِه يتوقَّف ثم يبكي ويقول: "ليتَني عَرِفتُ الله قبل سنين!".. فحدَّثتني نفسي حينها.. ما هو هذا الشيءُ الذي عرفه الدكتور توفيق عن الله جعلهٌ يتندَّم على سِنينه التي مضت؟، ما هي الحقيقةٌ التي فهِمها الرجل عن الله في بِضع سِنين ولم نفهمها نحن خلال سنوات طِوال؟ ما هو هذا المعنى الذي أدرَكه هو وغاب عنَّا؟..
تركنا الدكتور توفيق ورحل إلى الله، ولكنِّي ما زلتُ أُقلبُ مَقُولته تلك في رأسي، ودائماً ما أتساءَل هل حقاً نعرفُ الله؟.. إلى أن هداني الله إلى كتابة تلك السطور، فأرعِها يا أخي سمعكَ وأحفظها في سٌويداءِ قلبك، فكلماتي لك اليوم ستكون عن الله جلَّ جلاله..
اعلم يا أخي وفَّقني الله وإياك أنَّ أكثر ما يَحزُّ في النفس، ويَطعنُ في نقاء القلب، ويهزُّ كيان الضمير، ويجعل عقلك وقلبك في حيرةٍ وتخبط، هو الجهلُ بالله وعدم معرفته، حيث أنَّ معرفة الله هي بدايةُ البدايات، ومنتهى النهايات، بها تصل إلى خواص الأمور، وينكَشفُ لك بها كلُّ مستور، وتنجلي من أمام ناظريكَ سحائبٌ الغيوم، فتُمطِرٌ معرفة الله جدْبَاء قلبك، فينبٌت فيه بذٌور الخشية، وتنمو فيه أنوار المحبة، وتكبُر فيه أزهار الطاعة، حتى إذا جاء وقت الحصاد تكون ثمرةٌ القلب قد نَضُجت وخرجت من أكمامها، وحقول الزَّرع قد استوت على سوقها، وحينها يُنادي المنادي على أصحاب تلك القلوب السليمة، بٌشراكمٌ اليوم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون..
كن كالحُصين.. فلا تٌصمِد وجهك إلا إليه، ولا تُلجئ ظهرك إلا عليه، ولا تُفوِّض أمرك إلاا إليه، ولا تَفرُّ مِنه إلا إليه إني لَكَ نذيرٌ مبين، فإذا ما تمَّ لَكَ ذلك فأنت حقاً تعرِفٌ الله |
وبدايةٌ الأمر في معرفة الله سبحانه أن تتعرَّف على صفات كماله، وعلامات إحسانه، ودلائل إنعامه، وكرامات إفضاله، فتتجهَ بكلَّ قلبك إليه، وتلْتجأ في كلِّ أمورك عليه، وأنت مُقرٌ ومُعترفٌ بأن لا ملجأ من الله إلا إليه، وكيف لا.. وأنت في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياتك في حاجة إليه، فإن لم ترْجع إليه اختيارًا رجِعتَ إليه اضطرارًا، هو وحده من يستحقٌ أن تسجٌدَ بين يديه، وتسأله مالا يَصعُبُ عليه لأنَّه الكريم المنَّان، الحليمُ الرحمان، الذي يُعطي بالليل والنهار، ينصٌرك على الجميع إن كنت مظلومًا، ولا يُغلق بابه عنك إذا كنت مجبوراً، يديه سحاءٌ بالليل والنهار، يُعطي على القليل، ويغفرٌ الكثير، ويتجاوزٌ عن المُذنبين..
لذا يا أخي تعرَّف عليه سبحانه في الرَّخاء ليعرِفُك في الشِدَّة، تعرَّف عليه بشوقٍ لتزداد له خشيةً ومحبة، تعرَّف عليه لتكون قوياً بجنابه عزيزاً بسُلطانه مؤَيداً بتوفيقه ميمٌوناً ببركته، فمعرِفتُك بالله القويّ ستقتُلُ في داخلك كلَّ خوفٍ، وكيف لا.. وهو الملكٌ الحفيظ الذي يَستودِعه المؤمنون قلوبَهم فيملأُها لهم بالسَّكينةِ والوَقار، فلا يخافون غيره، ولا يسألون سواه..
قال الخليفة لابن عمر وهو يَطُوف حول الكعبة.. سَلني يا بن عمر؟، فنَظر إليه نظرَة من استودَع الله قلبه فهو يأْوي إلى ركنٍ شديد، وقال في عزةٍ وشموخ: "أمِن أٌمور الدنيا أم مِن أٌمور الآخرة؟ فقال الخليفة أما الآخرة ف لله.. ولكن مِن شئون الدنيا، فقال بن عمر: لم أسأل الدنيا من يَملكُها فكيف أسألها مَن لا يَملكُها؟!
يقول شيخي علي الفيفي في كتابه لأنك الله: "أن معرفة الله هي أصل الدين وعماد التوحيد، وحقيقةٌ الإيمان ومنْبعٌ اليقين، واعلم أنه لا عُبورَ لأيّ رغبةٍ إلا من طريق الله، ولا وجود لأيّ حاجةٍ إلا في ساحة الله، ولا إمكانيَّة لحدوث شيءٍ إلا بالله، فإنه وحده الذي لا حول في الوجود ولا قوة إلا به، فلا يُمكنُ لخليَّةٍ أن تتحرَّكَ ولا لذرةٍ أن تكونَ ولا لقطرةٍ أن تتبخَرَ ولا لورقةِ شجرةٍ أن تسقُط إلا بحوله وقوَّته!، لا يستطيع العالم كلَّه أن يمسَّك بسوءٍ لم يُرده الله، ولا يستطيع العالم كلَّه أن يدفع عنك سوءاً قدَّره الله. وصدق الله العظيم "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِين"..
وختاماً أوردَ الإمام الترمذي في سٌننه "جاء شيخٌ أعرابيٌّ اسمهُ الحُصينُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم: كم تبعدُ يا حُصين؟ فقال: سبعةٌ، ستةٌ في الأرض وواحدٌ في السماء، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم: من لرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال صلى الله عليه وسلم من لرغبك؟ قال الذي في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فاترك الذين في الأرض واعبد الذي في السماء، فأسلم الحُصين..
إذن يا أخي كن كالحُصين.. فلا تٌصمِد وجهك إلا إليه، ولا تُلجئ ظهرك إلا عليه، ولا تُفوِّض أمرك إلاا إليه، ولا تَفرُّ مِنه إلا إليه إني لَكَ نذيرٌ مبين، فإذا ما تمَّ لَكَ ذلك فأنت حقاً تعرِفٌ الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.