شعار قسم مدونات

أردوغان وغول وأوغلو.. وحتمية ما بعد الانتخابات القادمة

BLOGS أردوغان و أوغلو

أعلن عبد الله غول الرئيس التركي السابق عدم نيته الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات القادمة، ومن قبله أعلن أحمد داوود أوغلوا عدم نيته كذلك، لتغلق بذلك أبواب التكهنات والمؤامرات التي كانت تحاك لكي يترشح الرجلان أو يترشح واحد منهما ضد أردوغان، ليتفتت حزب العدالة والتنمية بين هؤلاء الثلاثة أو بين اثنين منهم، فلكل واحد منهم وزنه وثقله وجماهيره داخل الحزب، وداخل الحركة الإسلامية التركية، وداخل الجماهير التركية كلها.

عبد الله غول هو من مؤسسي حزب العدالة والتنمية مع رفيقه رجب طيب أردوغان، وذلك بعد رحلة طويلة في أحزاب نجم الدين أربكان الإسلامية؛ التي كانت تُحلّ حزبا بعد حزب، وكلما حُلّ حزب ذهب أربكان لتأسيس غيره، إلى أن قرر الرجلان (غول وأردوغان) ومعهما آخرون تأسيس حزب مستقل عن حزب أربكان، فيه بعضٌ من العلمانية الظاهرة، وبعضٌ من الإسلامية الخفية. ومن الأسئلة التي لم يُقطع بإجابتها إلى الآن، هل كان خروج هؤلاء على تجربة أربكان خروجا أيديولوجيا؟، فيه بعض التميز الأيديولوجي والفكري عن أربكان ومشروعه، أم أنه كان مجرد خروج شكلي إطاري، من أجل تلافي الملاحقات العسكرية، والحل الذي كان يطالهم مع أربكان حزبا بعد حزب.

ومن الأسئلة التي لم يُقطع بإجابتها كذلك، هل كان خروجهم بتنسيق مع أربكان حينها؟، بحيث يشبه ذلك اللعبة التي حدثت بين الترابي والبشير في ثورتهم السودانية، حيث يذكر الترابي أنه ممن دبروا للانقلاب مع البشير، ثم هو من أشار على البشير بأن يعتقله، حتى لا يُحسب الانقلاب عليه وعلى الإسلاميين في السودان، وتكون هناك فرصة لتمريره من قبل القوى العالمية المهيمنة.

أحمد داوود أوغلو هو من قادة حزب العدالة والتنمية الكبار. تولى وزارة الخارجية في رئاسة أردوغان للوزراء، ثم تولى رئاسة الوزراء حينما تولى أردوغان رئاسة الجمهورية

هل كان خروج حزب العدالة والتنمية التركي من تحت عباءة حزب أربكان هو من قبيل ذلك؟، توزيع للأدوار ولعب للسياسة في أدهى صورها، أم أن هذا الخروج كان خروجا بغير رضا أربكان وبغير موافقته؟ المقطوع به أن حزب العدالة والتنمية حزب محسوب على التجربة الإسلامية التركية مهما حاول قادته ومؤسسوه إخفاء ذلك، أما عن درجة إسلاميته، وشكل هذه الإسلامية وحدودها، فهو مما يثير الجدال.

والمقطوع به أن عبد الله غول هو من أكبر مؤسسي الحزب، ولا يقل دوره عن أردوغان كثيرا، وقد كان هو أول رئيس وزراء في تجربة الحزب في الحكم عندما كان أردوغان ممنوعا من العمل السياسي بحكم قضائي لمدة زمنية محددة، فلما انقضت المدة وعاد أردوغان لممارسة حقوقه السياسية، تقدم هو لرئاسة الوزراء، وعاد عبد الله غول خطوة للوراء ليصبح وزيرا للخارجية، ثم بعد ذلك رئيسا للجمهورية التركية، مع بقاء أردوغان رئيسا للوزراء في نظام حكم برلماني، يكون رئيس الوزراء فيه هو الحاكم الفعلي ويكون رئيس الجمهورية منصبا شرفيا شكليا إلى حد كبير.

ثم بعد ذلك خرج عبد الله غول من المشهد تماما، وانتقل إلى صفوف المشاهدين، وتحدث الكثيرون عن بعض الخلافات بينه وبين أردوغان، ويبدو أن ذلك صحيح إلى حد كبير. أحمد داوود أوغلو كذلك هو من قادة حزب العدالة والتنمية الكبار. تولى وزارة الخارجية في رئاسة أردوغان للوزراء، ثم تولى رئاسة الوزراء حينما تولى أردوغان رئاسة الجمهورية، ثم لحق بسابقه عبد الله غول، وخرج من المشهد تماما، وأصبح في صفوف المشاهدين، مع حديث كذلك عن خلافات بينه وبين أردوغان، ويبدو كذلك أن ذلك صحيح إلى حد كبير.

الذي حدث بين أردوغان وغول وأوغلو ظاهرٌ تماما ولا ريب فيه. الذي حدث هو حسدٌ من هذا لذاك، ورغبة في الاستئثار بالقرار من ذاك بعيدا عن هذا. هو حظ النفوس ولعبة الشيطان ولا غير، وليس الخلاف خلاف آراء وأفكار وتوجهات، وإن كان كذلك؛ فقد كان يكفي أن تُحل الخلافات في الرؤى في ظل مؤسسات الحزب والدولة، وفي إطار الشورى ورأي الأغلبية. الذي حدث هو حسدٌ من غول وأوغلو لأردوغان وللمكانة التي وصلها، وضيق من انفراده بالأمر في بعض المواقف، وربما رغبة في وراثة مكانته ومكانه. وكذلك استئثار بالقرار من أردوغان في بعض المواقف، ورغبة في ألا ينافسه في المكانة والمكان أحد، وفي أن يظل الجميع من ورائه في ظل قيادته منفردا. هذا تفسيري لما حدث بلا أي ريب مني فيه.

لما جاءت الانتخابات الرئاسية التركية الحالية، سارع الجميع إلى الحديث عن ترشيح غول وأوغلو، وعن تواصل بعض الأحزاب معهما من أجل ذلك، بل وعن دعم بعض الأنظمة المعادية الخارجية لذلك، وعرض المليارات من أجله، في إشارة إلى دول خليجية على رأسها الإمارات، ومن ورائها بالطبع إسرائيل وأمريكا.

خرج داوود أوغلو ليؤكد قاطعا أنه لن يرشح نفسه لانتخابات الرئاسة، وأنه ملتزم بقرار حزبه (العدالة والتنمية) في ذلك، ولن يخرج عن توجهات حزبه ولا قراراته، وذلك في موقف مبدئي رائع. ثم خرج عبد الله غول من بعده ليؤكد أنه لن يترشح للرئاسة، ولكنه يلمح إلى أنه لم يحن الوقت بعد، وفي هذا إشارة إلى أن الأمر عنده يختلف عن أوغلو، فالأمر عند أوغلو مبدئي حزبي استراتيجي، أما عند غول فهو زمني مرحلي، فلا مانع _كما يُفهم من وراء كلام غول_ أن يترشح في الانتخابات بعد القادمة ضد أردوغان إن بقي وترشح لها، ويبدو في ذلك أن الجراح بين غول وأردوغان أعمق وأشد من الجراح بين أوغلو وأردوغان.

التجربة تتسع للجميع وتحتاج للجميع، وليس لزاما أن تكون الرقم واحد ليكون لك دورك وليذكرك التاريخ وتُعطى الأجر من الله، وليس لزاما كذلك أن تكون الرقم الوحيد
التجربة تتسع للجميع وتحتاج للجميع، وليس لزاما أن تكون الرقم واحد ليكون لك دورك وليذكرك التاريخ وتُعطى الأجر من الله، وليس لزاما كذلك أن تكون الرقم الوحيد
 

إذن، ستكون الانتخابات الرئاسية التركية القادمة بين أردوغان كممثل وحيد عن الحركة الإسلامية التركية، وبين مرشحين آخرين يمثلون حركات المعارضة التركية والتوجهات العلمانية. ويبدو من ذلك أن المنافسة ستكون محسومة لأردوغان، لثقل حزبه في الحياة السياسية التركية، وللمكانة التي أصبح يتمتع هو بها كزعيم تركي يُذكّر بالأجداد العثمانيين، وللنقلة الحضارية الكبرى التي نقل إليها تركيا في ظل حكمه على مدار السنوات الماضية. ويبدو كذلك كما تشير المؤشرات أن انتصاره في الانتخابات لن يكون حاسما بفارق كبير، وهذه هو طبيعة الانتخابات في ظل الأنظمة الديمقراطية بعيدا عن التزوير والتدليس واللعب بالانتخابات والناخبين.

والسؤال الذي قامت من أجله المقالة: ماذا بعد هذه الانتخابات فيما يتعلق بموقف أردوغان من عبد الله غول وداود أغلو، وما طبيعة العلاقة المنتظرة بينهم؟ لا بد أن يعلم أردوغان أن حزب العدالة والتنمية وتجربته التاريخية ليس محسوبا على فرد بعينه، وأنه تجربة لمجموعة عملٍ كان أردوغان على رأسها، ولا بد أن تبقى هذه المجموعة، وعليه أن يسعى بكل جهد لإعادة اللُحمة فيما بينها. ولا بد أن يعلم هؤلاء الذين شاركوا أردوغان في إنجاح التجربة أن لكل مجموعة عملٍ رأس يديرها، وأنه لا مانع من أن يبقى هذا الرأس في مكانه ما دام ملتزما بقواعد العمل الجماعي.

على أردوغان أن يسعى جاهدا لإعادة عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو إلى المشهد، من أجل مزيد من النجاح للتجربة، ومزيد من القوة في مواجهة العدو الخارجي وعميله الداخلي. إن محاولة الانقلاب على العدالة والتنمية في تركيا لن تكون المحاولة الأخيرة، وإن كانت الأخيرة فلن يهدأ الأعداء، وسيحاولون النجاح في وأد التجربة بطرق أخرى، وعلى رأسها اغتيال القادة المؤسسين من أمثال أردوغان وغول وأوغلو. ولذلك على هؤلاء القادة أن يعلموا أن تجربتهم تجربة جماعية، وما كان لها لتنجح إلا بذلك، ولزاما عليهم أن يعودوا إلى هذه الجماعية مهما تطلب ذلك من جميع الأطراف.

وإنا لنرجوا أن يعود المشهد بعد الانتخابات الرئاسية القادمة كما كان، كلٌ له دوره في التجربة، وليكن مثلا (أردوغان رئيسا، وعبد الله غول رئيسا للوزراء، وداود أوغلو وزيرا للخارجية، وبن علي يلدرم نائبا لرئيس الوزراء)، وغيرهم من القادة في بقية الأماكن القيادية والتنفيذية الأخرى، كلٌ حسب كفاءته ومكانته. التجربة تتسع للجميع وتحتاج للجميع، وليس لزاما أن تكون الرقم واحد ليكون لك دورك وليذكرك التاريخ وتُعطى الأجر من الله، وليس لزاما كذلك أن تكون الرقم الوحيد ولا تكون معك أية أرقام أخرى، ففي ذلك أكبر الخطر عليك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.