منذ سنوات أنا خطيب في مسجد كبير في داكا، أقوم بهذه العملية المهمة منذ أن دخلت في حياة العمل بعد أن غادرت الحياة الدراسية، وكان آخر مدرسة تخرجت فيها مركز البحوث الإسلامية، بميربور، داكا. وقد درست فيها في قسم التخصص في الفقه الإسلامي. وفي بداية حياتي العملية عُينت مدرسا في جامعة مشهورة في المدينة المجاورة لداكا، ولكن الراتب الذي أحصل عليه شهريا لا يكفي لأسرتي، فرغبت في أن أكون خطيبا في مسجد، حتى أستطيع أن أوفّر كل ما تحتاج إليه أسرتي، وبعد بحث طويل وجدت مسجدا، فعُينت بفضل من الله ومنه وكرمه خطيبا، وقد قضت علي خمسة سنوات، ولكن الأيام بدأت تضيق علي على مر الأيام وكر السنوات، حتى اضطررت أن أقرر مغادرة وظيفة المسجد عدة مرات، ولكني لم أستطع لضعف إمكانياتي المالية. وأكبر الخسارة التي عانيت منها في هذه السنوات الخمسة هي إغلاق فمي في تلفظ كلمة الحق.
الخطباء حياتهم الآن ضيقة جدا في بنغلاديش، لجنة المساجد لا تسمح لهم أن يقولوا جميع ما يعتقدونه حقا في نظر القرآن والسنة، لاسيما إذا كان الكلام ضدهم أو ضد حزبهم أو ضد الحكومة، تهدد لهم بإخراجهم من الوظيفة، وعندما يتكلمون على المنبر على خلفية الأعمال الفاسدة التي تقوم بها الحكومة تهدد لهم اللجنة بعقوبات رادعة. وتعتقد أن انتقاد الخطباء عبر منابر المساجد لفعالياتهم السيئة أو أي جهة حكومية مثيرة للجدال. ولكن العلماء والخطباء ينتقدونها بحجة أنها تتنافي معايير الدين الإسلامي، وتقاليد المجتمع البنغلاديشي.
كان المسجد في الصدر الأول للإسلام، كدار للبرلمان، ففيه تؤخذ البيعة للخليفة، وفيه تناقش أمور الحرب والسلم، وكان إمام المسلمين هو ذاته إمامهم في الصلاة وخطيبهم على المنبر، ولم تكن في المساجد خطب تقليدية أو سياسة كما انتهى بنا الحال الآن، ولكن كانت تناقش فيها كافة أمور المسلمين، يعرضها الحاكم ويبدي المسلمون آراءهم تجاهها.
المساجد اليوم قد صارت مركزا سياسيا لكل الأحزاب السياسية، السياسيون عندما يحتاجون إلى صوت الشعب يأتون إلى المساجد لا لأداء الصلاة، بل لطلب الصوت |
وكانت المساجد في الصدر الأول مفتوحة في كل الأوقات؛ كان ذلك هو المأثور عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في زمنه وزمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم جميعاً. فالمسجد يجب أن يكون مؤسسةً مستقلةً، تعمل لنشر الإسلام، وإصلاح المسلمين، دفعهم إلى القيام بالأعمال الحسنة من خدمة المسلمين، وإعطاء الفقراء حقوقهم، ومعاونة المحتاجين، تعلم الناس ضروريات دينهم من العقائد والأحكام، والمعاملات والمعاشرات والأخلاق، ولا ينبغي لمسجد أو لمن ينتمي إلى مسجد أن يقوم بأعماله السياسية التقليدية المخالفة للإسلام وعقائده السمحة من المسجد.
فالمساجد بيوت المتقين ومن يكن المسجد بيته يضمن الله له الرحمة والجواز على الصراط، والرجل المعلق قلبه بالمساجد من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، وكثرة الخطى إلى المساجد تمحو الخطايا. وحيث كان المسجد هو البرلمان الذي تناقش فيه الأمور وفيه تعرض القرارات، كانت الصلاة جامعة، ودعوة للمسلمين لكي يهرعوا للمسجد، لا ليؤدوا صلاة، ولكن ليسمعوا أخبار وأنباء الانتصارات، وليحضروا قسمة الغنيمة، خلاصة الكلام أن المسجد كان مركز جميع الأشياء لمجتمع إسلامي، بل نستطيع أن نقول، إن رحى المجتمع يدور حول المسجد.
نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم قام بالدفاع عن الإسلام وخطط له في المسجد، ورد على المشركين شعرا في المسجد، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت منبرا لينشد. وفي المسجد جاء الذين أسلموا من قريش ليعلنوا إسلامهم، وفي المسجد خصص جنب منه، يطلق عليه الصفة لفقراء المسلمين ممن ليس له قبيلة أو مأوى يعيشون فيه، وكان منهم أكبر المحدثين أبو هريرة. بينما خصص عمر ساحةً للشعراء. وفي المسجد عقدت البيعة للخلفاء الراشدين، وكان المسجد هو أداة لإعلان رأي الجماهير ومراقبة الحكام ومتابعة تصرفاتهم.
وكان دخول النساء في المسجد سهلا جدا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة أصحابه، وفي أزمان طويلة بعدهم، حتى رأينا في السير أن امرأة وقفت في المسجد ترد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، لأنه أراد أن يحد من قيمة المهور التي تغالى فيها الناس، فقالت، ليس ذلك لك يا عمر، وسألها الخليفة لم؟ فقالت، لأن الله تعالى يقول: "وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً"، سورة النساء آية 20. فقال عمر، أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وعندما توسع المجتمع الإسلامي بانتشار الإسلام كانت المساجد هي ساحات العلم والثقافة والمعرفة، وداخلها نشأت المذاهب الإسلامية، بل تطورت أساليب ممارسة المعرفة، بحيث وضعت أصول الدراسات الجامعية، التي تطبقها حتى الآن أعرق الجامعات البريطانية، من حيث حرية الدراسة، والعلاقة الوثيقة بين الدارس والأستاذ، ومن استبعاد القيود والشروط… الخ.
ولكن للأسف الشديد أن المساجد اليوم قد صارت مركزا سياسيا لكل الأحزاب السياسية، السياسيون عندما يحتاجون إلى صوت الشعب يأتون إلى المساجد لا لأداء الصلاة، بل لطلب الصوت. والأئمة مضطرون لإعطائهم الوقت للتكلم أمام المصلين، هذه هي الحالة في أكثر مساجد بنغلاديش. والعلماء أيضا قد انحرفوا عن منهج سلفهم الصالحين، لا يستطيعون أن يستقيموا على أخلاقهم السامية، بل يبيعون دينهم وعلمهم بأمر تافه من صالح الدنيا. اللهم احفظنا من مثل هذه الفتن، آمين يا رب العالمين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.