شعار قسم مدونات

سرطان الثدي.. لا تدع "العيب" يأكل جسد من تحب

مدونات - سرطان الثدي

تستحضر الذاكرة أن معلم اللغة الإنجليزية طلب منا ذات مرة ونحن في الصف الأول الثانوي كتابة رسالة باللغة الإنجليزية عن (عيد الأضحى المبارك)، بعد عودتنا من إجازة العيد نلقي فيها الضوء على أهم الأنشطة التي قمنا بها من زيارات للأهل والأقارب وطقوس ذبح الأضاحي وتطلعاتنا للعام القادم. كان هذا التكليف مزعجا لي بعض الشيء؛ فأنا لم أكن على صداقة حميمة بمادة اللغة الإنجليزية في تلك الفترة، ولم يكن في عائلتي أحد يجيد كتابة الرسائل باللغة الإنجليزية، أما صديق أبي الذي كان يعمل مع الأجانب من أمريكا وبريطانيا فقد حزم أمتعته في رحلة علمية خارج قطاع غزة.

 
انصرف نظر أمي يومها إلي أحد طالبات العائلة التي كانت تدرس في جامعة الأزهر، وتحظى باحترام الأساتذة؛ لأدبها وعفتها وتحصيلها المتميز في الدراسة. شعرت في البداية بنوع من الحرج أن أذهب إلى بيت قريبتي وأطلب منها مساعدتي في كتابة (الرسالة)؛ كونها أنثى وأنا ما زلت أخطو خطواتي الأولى الى مرحلة (المراهقة)، وما تحمله الينا من تغيرات في البنية والسمات الجسمية والعاطفية والوجدانية، كما أن الطريق لم تَعُد الكثير من خطواتي زائرا ومترددا عليهم إلا في القليل من المناسبات العائلية الضيقة. أخيرا قررت أمي أن تضع أعباء البيت خلفها وتمضي بي إلى بيت قريبتي التي لا تبعد عن بيتنا القديم سوى بضع خطوات على الأرجل، جلسنا وحولنا الأم وبناتها يضحكن ويبتسمن ويتجاذبن أطراف الحديث عن العائلة والجيران شأن النساء في مدينتنا. كانت الابتسامة لا تغادر ثغر الأم مطلقا وهي تسأل عن جدتي التي تميل إلى التسلط والرغبة في اخضاع الجميع تحت جناحيها، أما أنا فكنت أنظر إلى الأرض أحيانا وإلى الساعة في يدي من شدة الحرج، وشعرت أن عقارب الساعة تمارس ابتزازا من نوع آخر وهي تسير متثاقلة في دوران لا أفهمه.

 

يشكوا بعض النساء من اعتداء الأزواج عليهن بالضرب عند الحديث عن إجراء الفحص المبكر، أو طلب الخروج من البيت للمشاركة في الجلسات الصحية والندوات التثقيفية

قامت منى بكتابة الرسالة بخط يدوي رائع يشبه كثيرا خط الطباعة على الحاسوب، ومزجت الخط الجميل بألوان أضافت إلى الكتابة روح أرسطو وفن أفلاطون اللذان دارت بين ثنايا مؤلفاتهما في الجامعة. دنت منى وبيديها الرسالة ثم شرعت تقرأها بلكنة أقرب إلى البريطانية منه إلى الأمريكية، مع شرح بعض المفردات (vocabularies) التي كانت تبدو لي نوعا من (الطلاسم) أو (شيفرة دافنشي)، قدمت الرسالة فالتقطتها أمي بسرعة قائلة: "يا إلهي! هذا خط حاسوب! ستكون يا بني طالبا مميزا غدا وستحصل على أعلى الدرجات!". توجهت أمي بالشكر الجزيل إلى الأم وابنتها منى ودعت لها: "يا رب ينجحك ويرزقك ابن الحلال اللي يستاهلك"، ثم استأذنا وانصرفنا والأم تلح بالبقاء حتى أنها نزلت بضع درجات خارج المنزل.
 
دارت الأيام وتقلبت السنين، مرت مناسبات كثيرة وتعاقبت أحداث عديدة، جاءت وجوه وغابت وجوه أخرى، وإذا بخبر يسري في وسط العائلة والأصدقاء والجيران كالنار في الهشيم: "منى – معلمة اللغة الإنجليزية ينهش جسدها السرطان". أصيب الجميع بالصدمة وقصد الكل بيت منى التي لم يمضِ على زواجها سوى عامٍ واحدٍ لتستقبلهم الأم هذه المرة بالدموع. غابت الابتسامة! نعم غابت بعيدا في حنايا قلب يعتصره الوجع والأسى على ابنتها البكر التي أصابها مرض عضال، وتقيم في المستشفى أكثر من البيت أو المدرسة.

  undefined

 

لم أكتب هذه الكلمات للتسلية أو العاطفة أو مجرد تسليط الضوء على أحد صور المعاناة الفردية لمرضى السرطان، فقد قامت وزارة الصحة الفلسطينية قبل فترة بافتتاح وحدة (الماموجرام) «جهاز الكشف المبكر لسرطان الثدي» في عيادة الرمال بحضور السفير الياباني لدى السلطة الفلسطينية (تاكيشي أوكوبو)، ووفد رفيع من منظمة الصحة العالمية (who)..
 
بدأت وزارة الصحة وبعض المؤسسات الدولية والمحلية المختصة تشجيع النساء على زيارة العيادة الطبية وإجراء الفحص المبكر للتأكد من سلامتهن من المرض، والحصول على بعض الإرشادات الوقائية؛ لاكتشافه بسرعة تسهيلا لعلاجه. يقول الأطباء والقائمون على مشروع (الماموجرام) في وزارة الصحة: "إن الفكرة ما زالت في بدايتها والإقبال على إجراء الفحص المبكر ما يزال محدودا؛ بسبب ممانعة الكثير من الأزواج ورفضهم قيام زوجاتهم بإجراء الفحوصات بداعي: (العيب والغيرة الجوفاء على زوجته وضرورة التوكل على الله والتسليم بالقضاء والقدر). رويدا رويدا لوحظ انتعاش في إقبال النساء على إجراء الفحوصات الطبية والحصول على بعض الإرشادات المنزلية التي تمكنهن من اكتشاف الأورام والتكلسات ومراجعة الطبيب المختص عند الضرورة، إلا أن تحديات اجتماعية وثقافية ما زالت تفرض نفسها بقوة على القائمين على هذه البرامج.
 
يشكوا بعض النساء من اعتداء الأزواج عليهن بالضرب عند الحديث عن إجراء الفحص المبكر، أو طلب الخروج من البيت للمشاركة في الجلسات الصحية والندوات التثقيفية، بالإضافة إلى تعرض بعضهن للإهانة والحرمان من المال لمنعها من الوصول إلى المرافق الصحية أو مركز الرعاية الأولية. مما لا شك فيه أن وزارة الصحة قد قطعت شوطا مهما في تطوير مستشفياتها وعياداتها ومرافقها الصحية المختلفة بالكثير من الأجهزة الطبية ومنها جهاز (الماموجرام)، إلا أن هذا الجهد الكبير هو قطرة في كوب أكبر يتمثل في ضرورة نشر الوعي والثقافة الطبية والعلاجية بين أفراد المجتمع، وتنظيم المزيد من الحملات الوطنية الموجهة للوصول إلى جميع المواطنين؛ سيما المناطق الحدودية والقرى المهمشة والفئات الهشة التي تحظى بيسير الخدمات والموارد. وليكن شعارنا دائما: (إن تشخيص المرض في بدايته هو نصف العلاج)، والكيّس من فَطِنْ.