شعار قسم مدونات

"طلق صناعي".. حين يقهر المواطن وييأس من التغيير

مدونات - طلق صناعي
تجاهلت كثيراً الدعاية المعنونة بـ "طلق صناعي" التي تدلك على ولادة فيلم مصري جديد، حقيقة الأمر أنني لم أعد مشدوداً للأفلام العربية التي تم استهلاك نصوصهاً ومعالجاتها للأوضاع السائدة في المجتمعات العربية عموماً بشكل تجاري سخيف لأبعد ما يمكن للاستهلاك أن يفعل مصاحباً للتسطيح الساذج لمرآة المجتمع إذا ما جاز للأفلام أن تكون مرآة تنضح بما تخوضه المجتمعات من نكسات أو حتى ارتقاءات. لكن برنامجاً أتابع مقدمه وهو على سوية معقولة من الرشد والإدراك ذكر الفيلم ودفعني أن أشاهده وقد راق لي الفيلم كثيراً، وإنني هنا أقول أنني أقدم انطباعاتي الشخصية بحق الفيلم بعيداً ربما عن الموضوعية التي يرتجيها الآخرون.
 
يحفل الفيلم بممثلين، من غير فئة النجوم، وهنا لا أعني التقليل من شأن مؤدي الشخصيات في الفيلم، انما أحاول أن أصل لفكرة كنهها أن نواة الأفلام لا تنجح فقط باستقطاب "نجوم شبابيك السينما أو المسرح" وبالتالي تسترعي الكثير من القدرات الإنتاجية لإغراء فلان أو فلانة كي يكونوا أداة ترويج للفكرة المراد ايصالها، بل برأيّ الشخصي يكفي أن يكون لدينا نص أو فكرة بسيطة لهما من الأولوية ما يتفوق من حيث الأهمية على "نجومية فارغة" قد تم استهلاكها، لاستقطاب المشاهدين، خصوصاً تلك التي تأخذ أو أخذت صفّ السلطات بانقلاب مشهدها، ميلاً مع المسيطر لا مع شرعية الشارع وصندوق الانتخاب.
 

المدى الذي وصل إليه بطل فيلم "طلق صناعي" من يأس بالتغيير هو ذات ما أكره إليه ملايين من البشر الذين غادروا سوريا الجريحة وعبروا البحر بأولادهم مخاطرين بحياتهم وحياة أعز ما يملكون كي ينجوا بأنفسهم

إن النص الذي يكوّن رسالة تتضمن عديداً من القضايا، هي أفكار لخلاصة اجتماعية، لواقع يتحايل الكثيرون تجنب وصفه بشكل مباشر، عبر اللف والدوران تارة وبالخداع المباشر تارة أخرى، هي مفتاح أساس في هذا الفيلم، فكتّاب النص لم يكونوا بحاجة ليتحدثوا بالتفصيل عن سيطرة غاشمة للذراع الأمني لدولتهم، وهي صفة عامة لدى كل دول المنطقة، هم وضعونا ضمن مسرح لحادثة تحدثنا عن تناول الأمن الغاشم لجزئية محددة لحادث يستحق إدارته بشيء معقول من المنطقية، والمقابل لها من منظور مختلف، وبالتالي تجنبوا الخوض في فلسفات جدلية ثقافية نخبوية، قد لا تصل لنتيجة حاسمة حين يقتحم السؤال الوجودي من المسؤول أهو المواطن أو المسؤول، هم ولجوا بشكل مباشر لتداعيات المجتمع المحتقن بالملفات المتكدسة من الفساد السياسي، الاجتماعي، الديني والأخلاقي، في حيز واحد هو مبنى السفارة الأميركية، حيث تبدو هذه السفارة -بلاد الأحلام- أشبه ما تكون بالواحة التي تحيط بما وراء أختامها مياه تعين على الحياة ضمن صحراء قاحلة كبيرة وممتدة تسمى زوراً بالوطن، ولعلّ كتاب النص أرادوا القول أن "الوطن وتلك الواحة" كلاهما مزور وغير حقيقي.
 
نشاهد ضمن هذه الواحة عينات من المواطنين الذين هم على وشك الاختناق فيلجؤون للـ "نجاة" عبر استخدام الكذب والتزوير كي ينجوا بأنفسهم من تبعات سقوط نظام دولة يتهاوى بكل مكوناته، لم يكونوا -ربما- طرفاً بإيصاله للشكل الذي هو عليه، فحين قرروا يوماً التغيير جنّ جنون النظام فقام بالانقلاب على شرعية صندوق والإرادة الشعبية، وتجرأوا على الإطاحة بأول خيار ديمقراطي في صحراء العسكرتارية المجتمعية، وجروا معهم المجتمع لمستنقع ليس الخروج من رماله المتحركة بسيطاً، فهي تبتلع أي إمكانية لمن يود الهروب منه، حيث تظهر السلطة محاولة تجميل جريمتها لتزيد من حجم الكوارث باحتكار مريع للمشهد عبر تطبيق حزمة من القوانين الاقتصادية والتضييق على الحريات لتأخذ بمركب المجتمع لمستنقع من العنف والعنف الذي سيكون مضاداً لا محالة، حتى مع كل محاولاتها بالإشارة لكوارث أصابت مجتمعات لجيران وصلت للفاجعة التي لا تختلف اطلاقاً عن مشهدها الحالي، قبيل لحظة الاشتعال.

  

 
هناك عبارة حقيقية تشترك فيها كل المكونات السلطوية العربية بل وحتى الإسلامية يقولها مدير الأمن الذي يتولى عملية تحرير الرهائن في السفارة الأمريكية للسفير الأميركي أن رئيس الوزراء يرتجف حين يشاهد ضابطاً من رجال الأمن، هذه العبارة مفتاحية في هذا الفيلم، فحين نتابع المشهد الذي يحاول فيه مدير الأمن الحديث فيه مع المختطف بطريقة رجل الأمن المعروفة والمتداولة بطريقة فظة وتهديدية وما يقابلها من طريقة مختلفة بالتعاطي من قبل السفير الذي يرفض التعاطي مع الموضوع بهذه الطريقة كونها تهدد مواطني دولته المحتجزين، بل ويبدل وجهة نظره حين تأتيه التعليمات بخلاف ذلك، بالمقابل لا يجد الضابط حرجاً من اعتبار المختطفين المصريين ضمن ذات المكان أضراراً جانبية فيما لو قام بالأمر على طريقته المتبعة في سلوكيات لم تعد تخجل السلطات الأمنية من التهديد بها علناً وعبر وسائل الاعلام الوطنية وغيرها من الفضائيات البصرية الخاصة من قبل شركاءها من الطبقات المشاركة أو المستفيدة من هذا الوضع المجنون عبر توجيه كلابها من "إعلاميين أجراء" كي ترسخ من شعور الاستكانة والرضوخ لدى المواطنين لهذا الواقع المفروض بالإكراه، سواء بالترويج للقبول بهذه السياسات أو منح السلطات صكاً مفتوحاً وعلى بياض بخصوص إجراءاته التي تزيد البلاد ديوناً وسيزيد معها بدون شك عمق الكارثة القادمة التي ستورث للمواطنين.
 
تمنح الموسيقى التصويرية للفيلم تكاملاً على نجاح فكرته، وكان لبساطة تعاطي الأب اليائس مع الحادثة التي حدثت دونما تخطيط، وبالرغم من أنها جعلته يخسر حياته وحريته، فتراه يخرج للعلن ليعلن للعموم أنه ليس بإرهابي وأنه يستحق المحاكمة لا التصفية، خصيصاً مع تكرار قول زوجته الحامل للمختطفين معها بأن زوجها شخص بسيط ومسالم للغاية ولا يستطيع إيذاء أحد مشجعة إياهم على ليحاول أحدهم أخذ السلاح منه ببساطة، وانهاء الوضع المتأزم بسلام، برأي هنا أن الزوجة كانت تقول أن المواطنين في دول يحكمها القهر والعسس هم أشخاص بسطاء ومطالبهم بالحياة واستمرارها بشكل مسالم يتم عبر استمرارية شعورهم أنهم بشر يحصلون على حق الحياة والكرامة والا فإنهم سيتحولون بالقوة القهرية والاكراهية لخارجين عن الدولة رغم بساطة شخصياتهم وبداهة طلباتهم، التي ما عادوا قادرين على الشعور فيها في بلاد يحكمها الخوف والاجرام.
 
إن المدى الذي وصل إليه بطل الفيلم من يأس بالتغيير هو ذات ما أكره إليه ملايين من البشر الذين غادروا سوريا الجريحة وعبروا البحر بأولادهم مخاطرين بحياتهم وحياة أعز ما يملكون كي ينجوا بأنفسهم من عاصفة أكلت البلاد والعباد اسمها الطغيان والإكراه والسلطة الجبرية والتي لا مجال معها للحديث عن التغيير، سيما أنها تحظى بمباركة دولية لاستمراريتها فهي ظاهرياً تساهم بالقضاء على الإرهاب، وفي الباطن هي ذراع تلك الأنظمة الديمقراطية بالسيطرة على أقوامنا "الرعاع" وهي ذاتها، أي الأنظمة بالتحديد، أصل كامن للفساد والإرهاب وطريق مضمون للوصول للجنون والدماء والدمار الذي عصف وسيعصف تكراراً ومراراً على من يعيد ذات التجربة ويخدع نفسه بأنه سيحصل بالقمع والإكراه والإجرام بحق المجتمعات على نتائج مختلفة عما هو كارثي متوقع، حتمي وآت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.