شعار قسم مدونات

إعلام السلطة.. عندما يصبح الصحفي مخبر الدولة

blogs-ashor
عندما تشاهد على أرض الواقع إعلامياً مبدعاً في وسائل إعلام الدولة العميقة، فإياك أن تظن أن الرجل عصامي قام بتكوين نفسه عبر رحلة من الصبر والعطاء، لا هذا ولا ذاك، فالدولة العميقة تكفلت به من مولده إلى أن وصل إلى ما وصل إليه، ولذا يسرت له وسائل اقتباس الأنباء من مصادرها الرسمية ومنابعها الموثوقة، وفتحت له الأبواب على مصراعيها ومهدت له الطريق، ناهيك عن ظروف النشأة التي جمعته بأقرانه أبناء تفرعاتها العربية الذين كلهم في العمق شرق، ولك أن تتصور مقدار الجهد المبذول في صناعتهم على مرأى ومسمع من رجالات الحرس القديم، وفي ذلك تأهيل لهم ليمتلكوا بحكم ارتباطهم بها أقصر خط مستقيم نحو المعلومة، خلافاً للمغضوب عليهم من الإعلاميين أبناء الزوجة الثانية الراغبين في الحرية، الممارسين للأدوار التنويرية، فهؤلاء يتم حصارهم في أضيق الدوائر.
 
ينطبق الوصف القرآني "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ" على فئة إعلاميي سحرة فرعون، في غواية تنشطر في شتى الميادين إلى حد أنهم في كل واد يهيمون، فتراهم يقدسون النظام بعدة صور على مدار الساعة، فارغين من مقومات العمل الإعلامي فلا حرفية ولا فصاحة ولا إبداع بل عبر التسلق والنفوذ والقفز بمساندة أسوار الدولة العميقة ومؤسساتها، مشكلين ثابتا من ثوابت أركانها والتي تمر في البدء عبر أئمة السلاطين ممن يرون أمريكيا تقود العالم نحو شطآن الآمان، وآخرين يرون حركات التحرر إرهابية، ويأتي المرور الثاني عبر إعلام يمسخ ويزور الحقائق، ويتجلى المرور الثالث عبر قبضة أمنية تضمن استمرار الأحكام العرفية وشيطنة المعارضة في كل صورها، وحصر مفهوم الأمن في دائرة منع حدوث التمرد السياسي، أما بمفاهيمه الأخرى فلا اكتراث به، ومثال ذلك الأمن الأخلاقي في ثنايا الشبكة العنكبوتية، يتم إهماله ولا يوجه بالصورة المطلوبة كما يفترض.
 

هذا هو ثالوث ارتكازات الدولة العميقة: علماء السلاطين والقبضة الإعلامية والقبضة الأمنية، وما تستوجبه من فرض حالة الطوارئ والاحكام العرفية والمحاججة بالأمن والأمان
والصحفي وفق تعريف الدولة العميقة هو الجالب للمعلومة وليس النابغة اللغوي والألمعي؛ فتلك بضاعة مزجاة من زمن الألفية الماضية، ووفق ذلك فمهمته ليست التنوير بل النقيض والقيام بتصوير الأحداث التي من شأنها إدخال السرور إلى قلبها بغض النظر عن رغبات الجماهير الكادحة، فنكاد أن نطلق عليه لقب المخبر، وحائط الصد ومروج الإعلام، ومتلق المنح والهدايا وقس على ذلك، فتصبح مهنته بهذا الوصف مهنة المكاسب لا المتاعب، لذا من السهل أن تجد الكثيرين من هذه الفئة ممن لا يتقنون أبجديات وبديهيات اللغة الأم يخرجون على منصات الإعلام بقدرة قادر على الرغم من تواضع مستوياتهم اللغوية والحرفية، وعدم امتلاكهم لمهارات النطق السليم، تفتح لهم الأبواب على مصراعيها دون رقيب ولا حسيب، ويحوزون الشهادات الجامعية بشتى الوسائل، وقد نما الواحد منهم وترعرع تحت جناحي الراعي الرسمي، الذي تطوع في الأخذ بيده، والمسح على رأسه حتى يكبر، ثم تحل مرحلة التغاضي عن هفواته، وابتعاثه في دورات وسفرات لغايات وغايات، أوليس هو الطفل المدلل؟!
 
قد تجده في ماضيه المنصرم -من باب الافتراض الجدلي- كاتباً ملتزماً حراً ناطقاً بهموم الأمة، ولكن سرعان ما ينقلب فالتماهي مع السلطة مفسدة أي مفسدة، تعاملا أم اندماجا كلا على حد سواء .في الوقت الذي تبدو فيه السلطة الرابعة مهمشة في عالمنا العربي، فإن العديد من الصحفيين يتعرضون للأخطار من عدة جهات، وفق ما تصرح به المنظمات الدولية في تقاريرها وتوصيفها لمقدار الهم الصحفي والمشاكل المرافقة له، ومن هنا فليس غريباً أن تتعرض قناة مهنية مثل الجزيرة بإعلامييها الكبار لوابل من الإساءات والاعتقالات بل والاغتيالات، وتطول القائمة في هذا السياق من الشهيد طارق أيوب في مطلع هذه الألفية إلى محمود حسين الذي تجاوزت مدة اعتقاله خمسمئة يوم دون محاكمة، في ختام العقد الثاني لانطلاقتها بشعارها: الرأي والرأي الآخر، مرورا بسامي الحاج وتيسير علوني وآخرين تنوعت مصائرهم بين الضغوطات والإهانات والاعتقالات، ومنهم من استشهد في ميادين الواجب لتختلط دماؤه بالأرض العربية في بحثها عن مفردات الحرية والديمقراطية والعيش بكرامة.
 
 undefined
 
إعلام الدولة العميقة هو إعلام انتزعت منه السلطة الرابعة وتحول لخادم مطيع يسير في أفلاك الحكومات، يحرص على استمرار إغماض الناس لأعينهم، إعلام يصور توقف طائرة الرئيس الأمريكي في مطار ما للتزود بالوقود على أنها زيارة تاريخية لها ما قبلها ولها ما بعدها، إعلام يصور موسوعة جينيس بأنها مقياس رفعة الأمم والشعوب، إعلام يصور بناء ناطحات السحاب وتنظيم البطولات الرياضية بأنه تفوق حضاري، ولذا لا نجد غرابة عندما نصل لمرحلة أن ينظر هذا الإعلام لشراء المفاعل النووي من البقالات العالمية، فهل وصل بنا الحال لإفهام الناس ودغدغة عواطفهم وفق هذا التوصيف ؟ وهل يتقبل عاقل التقعيد والتأسيس لهذا التوجه المبني على التسليع نقيضا لبناء النهضة العلمية، ليطال هذا الفكر العقيم التكنولوجيا النووية تحت مسمى السلع القابلة للبيع.
 
إعلام لم يستطع أفهام الناس أن نطق كلمة Hello ليس له علاقة بعمل الهاتف، وكان حريا به إفهام النخبة قبل الجماهير أننا إن قلنا انتهت الدولة العميقة فسيعمل الهاتف وربما بصورة أفضل بغض النظر عن الكلمة، وصدق المثل العربي القديم، إذ يقول : إنك لا تجني من الشوك العنب.
 

هذا هو ثالوث ارتكازات الدولة العميقة: علماء السلاطين والقبضة الإعلامية والقبضة الأمنية، وما تستوجبه من فرض حالة الطوارئ والاحكام العرفية والمحاججة بالأمن والأمان، وتطويع هذه المفاهيم وتسطيحها في أضيق دائرة يحملها فهم دلالة كلمة أمن، كما لو كانت عملا جنائيا، والقفز عن الدلالات الكبرى للأمن بأشكاله وصوره القومية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والجنائية، لماذا يجد المواطن العربي نفسه مرغماً على تلقي الأخبار من قنوات أخرى غير بلاده كالجزيرة والقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية؟ وختاماً ترى كيف ستكون التغطية الإعلامية للدولة العميقة في حالة عودة القدس الشريف، حتماً أنه بعد مرور ثلاثة أيام على هذه العودة سينشر ما يلي: قامت مجموعات سياحية من الصهاينة بالخروج الجماعي من فلسطين نحو جزر البحر الأبيض المتوسط في نزهات قد تستمر لمدة من الزمن وكل ما يقال عن تحريرها هراء في هراء، ولا تصدقوا كل ما يقال!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.