شعار قسم مدونات

المعرفة الغربية في مواجهة الفكر الإسلامي

BLOGS مكتبة

شكلت المعرفة الغربية منذ بدايات ظهورها تحديا كبيرا أمام الفكر الإسلامي، تماما كما كانت المعرفة الإسلامية في العصور الوسطى الأوروبية تحديا أمام الفكر الغربي، حيث كان من أشهر المواقف الدالة على ذلك دعوة روجر بيكون إلى تعلم اللغة العربية بغية تحصيل المعارف الإسلامية، فضلا عن البعثات العلمية الأوروبية التي كانت تصل إلى الأندلس في أوج ازدهارها العلمي، حيث انعكس ذلك التحدي عند الغربيين في استجابة الفكر المسيحي لضرورة التوفيق بين المعطى الفكري والنص الديني، فضلا عن المقابسات الشهيرة التي حصلت حينها بين كل من كوبرنكوس عن ابن الشاطر وكذا ديكارت عن الغزالي وغيره كثير، وإن بدا أن الأمر متعلق في الظاهر باستعادة الأوروبيين لتراثهم اليوناني، حيث يمكن أن يكون هذا موضوع بحث مستقل بذاته، أعني "إشكالية استعادة التراث اليوناني عند الأوروبيين ودور التراث العربي الإسلامي فيه".

لكن هذا المقال سيقف عند نقطة بدائية في الموضوع المقترح للبحث! وهي موقف الفكر العربي الإسلامي المعاصر من المقابسة عن التراث الغربي، إذ بادي الرأي يمكن تصنيف المواقف الحاصلة من الفكر الغربي إلى صنفين، داخل كل صنف نوعان، بمعنى أربعة مواقف تحكم الفكر العربي الإسلامي من المعرفة الغربية هي كما يلي:

صنف متوجس منها وآخر منغمس فيها، والصنفان هما على نوعين، النوع الأول من الصنف الأول إعراض تام عنها إلى درجة اعتبار مجرد الاطلاع عليها مخالف للشرع، والنوع الثاني من الصنف الأول لا يجد فيها إلا أداة دنيوية تعين على الجوانب المادية والظاهرية من الحياة، والنوع الأول من الصنف الثاني يجد أن إسقاطها يجب أن يمر إلى العمل مباشرة دون وسائط، والنوع الثاني من الصنف الثاني يتصور أن الاسقاط يجب أن يكون مرحليا ونظريا.

ولما كان موقف التوجس واضحا بنوعيه الرافض تماما والمتقبل جزئيا، كان من الأفيد الاقتصار على تحليل الموقف الثاني بنوعيه، فالانغماس عند النوع الأول من الصنف الثاني هو "استغراق عملي" في تعميم مسار الفكر الحديث على المجال الإسلامي، والانغماس عند النوع الثاني من الصنف الثاني هو "إيغال نظري" في فكرة استيعاب مسار الفكر الحديث ضمن المجال الإسلامي.

هناك اتجاه رافض رافض لتعميم التجربة الفكرية والتاريخية للغرب باعتبارها التجربة الوحيدة والأخيرة، فكما سبقت التجربة الغربية الحديثة تجارب يمكن أن تتلوها تجارب أخرى أيضا

وعندما نأتي إلى المقارنة والمفاضلة بين حقيقتي (تعميم مسار الفكر الحديث) و(استيعاب مسارات الفكر الحديث) نجد أنهما متفقان على فكرة الاسقاط باعتبارهما يسلّمان معا باختلاف المجال الفكري الإسلامي عن نظيره الغربي، ويكمن الفارق في أن الأول يبتغي تسوية المجال الثقافي الإسلامي مع نظيره الغربي، والثاني يهدف إلى استئناف الفكر الإسلامي للإبداع الفكري مجددا، أي أن الأول يجعل من الفكر الغربي الحديث غاية تتحقق داخل المجال الإسلامي والثاني يجعل من الفكر الغربي أداة لتحقيق الاستئناف.

ومن ثم فإن الموقفين معا مسكونان بغاية "عقائدية"، الأولى تتركز على السعي العملي لتعميم "النموذج التاريخي الغربي" على المجال الإسلامي، والثانية يتمحور حول السعي النظري لاستئناف التجديد والإبداع في الفكر الإسلامي، والمحصلة أن سمة الاشتغال التعميمي عند الموقف الأول ستأتي حَدّية في اتجاه واحد لأن غايتها عملية، والسمة الثانية للاشتغال ذاته ستكون بالضرورة غير معنية جديا بـ"تحصيل تام" للمعرفة الغربية مادام الهدف هو نقل تجربة فكرية- تاريخية محددة ومتعينة من مجال إلى مجال آخر، وسيكون الهم النظري شبه معدوم.

 

بينما سمة الاشتغال الاستئنافي عند الموقف الثاني ستكون اجتهادية صرفة تعتمد التحقيق والترجيح دون "نموذج متعين" حيث الغاية سترتكز على إدراك (آليات الاجتهاد) في الفكر الغربي وكذا توظيف (روح الاجتهاد) في قراءة التراث والواقع الأهليين، حيث الفارق النوعي هنا هو فصل آليات الاجتهاد عن روح الاجتهاد حيث الاجتهاد يكون ذاتيا صرفا دون اسقاطات نقلية مباشرة.

وهنا نكون قد وقفنا على الفارق الرفيع بين النموذجين المنغمسان في المعرفة الغربية، وهو ذاته الفارق الذي ستنتج عنه نتائج كبيرة، كما سبق بيان أن النزعة العقائدية شاملة للموقفين، بل وهي خفية عند الأول وظاهرة عند الثاني، ومن ثم فإن مفاضلتنا هنا ستميل إلى النموذج الثاني لكونه يستوعب النموذج الأول ويتجاوزه، يستوعب النموذج الأول من حيث تصوره لـ(وحدة مسار الفكر الإنساني) بدلا من "تعميمه"، فهو موقف منهجي وليس موقف عملي نضالي، حيث غاية الموقف الثاني تحقيق الوصل بين الممارسة الفكرية في المجال الإسلامي والإبداع، وكذا تحقيق الصلة بين الماضي الفكري الأهلي والحاضر الفكري الأجنبي.

والمحصلة أن الموقف الرابع ليس رافضا كلية للفكر الغربي ولا متقبلا له جزئيا ولا غارقا فيه كلية إنما يجمع كل تلك المواقف التجزيئية في موقف واحد، أعني أنه موقف جمع إليه كلا من الرفض والجزئية والغرق حيال الفكر الغربي كما يلي:

يبقى من الهام تحديد الطبيعة العقائدية للنموذج الذي فاضلناه هنا، تأسيسا على الحكم المتقدم بعقائدية الفرق الأربعة، وأن اختلافها يعني اختلاف في عقائديتها كذلك

1- هو رافض لتعميم التجربة الفكرية والتاريخية للغرب باعتبارها التجربة الوحيدة (كما عند ما بعد الحداثة) والأخيرة (كما عند فوكوياما في نهاية التاريخ)، فكما سبقت التجربة الغربية الحديثة تجارب يمكن أن تتلوها تجارب أخرى أيضا.

2- هو تجزيئي من حيث اختلاف البيئات واعتبار العوامل التاريخية الطبيعية بوصفها مدخلا إلى التغاير في النماذج الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، مع التأكيد على رفض التجزئة القائمة على التصور الأرخبيلي للفكر، أعني أن الحضارة التي تمتلك ناصية الفكر تصبغه بطابعها البيئي الخاص، ومن ثم فالمهمة هي فرز الطابع البيئي الخاص عن الطابع المعرفي العام، مع الاقرار بصعوبة إدراك الحدود النهائية.

3- الإغراق في متابعة الفكر الغربي دون الانصهار النهائي فيه لما تقدم من مخالطة الخصوصيات البيئية للعموميات السببية حيث يحصل هنا الاجتهاد في التمييز القدر المستطاع دون ادعاء مفاصلات نهائية بين الغرب والإسلام، فالأمر متعلق بتواشجات منظومية يقوم ادعاء الفصل التام بينها على مبالغات.

وفي الأخير يبقى من الهام تحديد الطبيعة العقائدية للنموذج الذي فاضلناه هنا، تأسيسا على الحكم المتقدم بعقائدية الفرق الأربعة، وأن اختلافها يعني اختلاف في عقائديتها كذلك، ولعل عقائدية الصنف الأخير قد تحددت فيما تقدّم من الصفات الثلاث وخصوصية فهمها لكل عنصر، وهي (رفض التعميم العملي) (الإقرار بالتجزؤ البيئي للبشر) (الإغراق في متابعة الفكر الغربي) (الإيمان بوحدة الفكر الإنساني) وما ينتج عن ذلك كله أن يكون موقفا يجمع بين مواقف تبدو متناقضة لكن تفصيلها يبين موقع كل منها وهي: الجمع بين الوحدة والتجزئة، والجمع بين الرفض التام والإغراق التام أيضا.

ما يعني أن اجتماع الفرق الأربعة على الغاية النهائية التي هي غاية الاستئناف كتحقيق للمسؤولية الأخلاقية والتاريخية يعزز المسعى ويسرّع الخطى وذلك لحصول كل واحد منها على التجربة التي ستدفع بشكل أقوى مما لو تولى فريق لوحده المهمة، فضلا عن ضرورة التعاون مع بعض الأشكال المتقدمة في الفكر الغربي راهنا والتي تتقاطع أهدافه مع الخصوصيات الأربع المتقدّم ذكرها، والله أعلم وأحكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.