إن المسألة أكبر بكثير مما يُبسطها الذين ينظرون لما حدث على أنه مجرد تطور، إنها تتعلق بالمخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية في تدمير المقومات الأساسية للعناصر البشرية في المنطقة بحيث تصبح هذه الملايين حطامًا منهارًا لا يملك المقاومة حتى لو وضعت في يده أقوى الأسلحة، فالرجال هي التي تحرك الأسلحة وليست الأسلحة هي التي تحرك الرجال، والمجتمعات حين تنهار عقديًا وخلقيًا تصبح الملايين فيها غثاءً لا يستطيع الوقوف في مواجهة التيار. كانت تلك الجمل خير دليل ودافع للشهيد "سيد قطب" لانضمامه لجماعة تُحيي الفكر الإسلامي مرةً أخرى في المجتمعات كافة لاسيما منها العربية بعدما رأى أن تلك المجتمعات قد اضمحلت ووصلت لقيعان الجهل وحواف الإلحاد وسط الرذيلة والفاحشة والعي والتدهور الأخلاقي والفساد المجتمعي والمؤسسي. ورأى أن خير القائمة على ذلك الأمر في تلك الحقبة هي جماعة الإخوان المسلمين.
"إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه إنما نحن نقول: أنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح والبعد عن الحياة الإسلامية، إلى حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية" كانت إجابة سيد قطب حول الاختلاف الذي حدث في الستينات في سجون "عبد الناصر" تحديدا "ليمان طره" للأستاذ عبد الرؤوف أبو الوفا. عندما قَدِمَ عليه من سجن الواحات بعدما وصلت له أنباء عن تحرك مسار فكري آخر غير الفكر الأول للإخوان.
سرعان ما انقلب الحب كرهًا للإخوان، مما مهد للسلطة العسكرية التي حقيقةً هي الممهدة والمخططة للأمر ذاته بانقلاب عسكري واقتلاع الإخوان المسلمين من جذورهم والزج بهم خارج الحياة |
ليس وحده بل كان معه رفيقه "محمد هواش" الذي شاركه الملحمة الفكرية الجديدة التي خاضها من داخل سجنه لإقناع شباب ورجال الإخوان بها، ألا وكانت تنبثق حول. أن الحركة الإسلامية اليوم تواجه حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها المجتمعات البشرية يوم جاء الإسلام أول مرة من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة الإسلامية، والبعد عن القيم والأخلاق الإسلامية وليس فقط لبعد النظام الإسلامي "تحكيم الشريعة الإسلامية"، ودلل بِأن الحركات الإسلامية تشغل نفسها في أحيان كثيرة بالحركات السياسية المحدودة المحلية كمُغالبة حزب بعينه في انتخابات تشريعية أو برلمانية. بينما تشغل نفسها بمطالبة الحكومات بتطبيق النظام والشريعة الإسلامية بينما المجتمعات ذاتها بمجملها قد بعدت عن فهم مدلول العقيدة الحقيقة للإسلام، وعن الأخلاق الإسلامية لذلك ولابد الرجوع إلى القاعدة أي وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في العقول والقلوب وتربية النشأة الإسلامية تربية صحيحة سليمة، وعدم الاستيلاء عن الحكم إلا بعد تكوين بنية مجتمعية صلبة واعية للمنهج الحقيقي للقرآن والإسلام تكون بديلة للمجتمع الجاهلي السائد في خرافات العلمانية والشيوعية.
وكان لصاحب الظلال نظرة أخرى حركية لردع المعتدي على مشوار الفكر المجتمعي الذي صاغه مع زميله "هواش" كانت خطته تدريب مجموعة من شباب الجماعة ليكونوا بمثابة الرجل الفدائي الحامي لأفكار الحركة من اعتدائها وهذا بعد إتمام تربيتهم تربية صحيحة من العقيدة إلى الأخلاق، ولن يقوموا بالاعتداء مسبقا على أي مؤسسة أو جهاز تنظيمي للدولة بل ستكون لها حق الدفاع عندما تعتدي الدولة على الحركة كمُصادرة أملاك أعضائها وسجنهم وقتلهم وتشريدهم وكانت الصورة النهائية للرجل. أن تطبيق الشريعة وقيام الحكم الإسلامي ليس هدفًا عاجلًا بل تأخذ الحركة وقتها الكافي في تربية المجتمع للوصول بها من الجاهلية إلى الإسلامية الصحيحة ليكون المجتمع سندًا لأي نظام إسلامي يقوم بعد ذلك.
وانتهى الحال إلى اقتناع أشخاص بالفكر القطبي الجديد والبعض كما هو بأدبيات التنظيم الأساسية التي قام بها. كل هذا سرد في كتاب "لماذا أعدموني" وهو كتاب للشهيد بخط يده ثم جمعَه وقام بنشره كل من "هشام – ومحمد علي حافظ"، فهل تنبأ "صاحب الظلال" في سقوط منهجية الإخوان المسلمين في الدعوة؟ سقطت الجماعات الوسطية كافة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي ودخولها المعترك السلطوي السياسي معتمدةً على ظهير شعبي عضوي وغير عضوي ليتبعها في كافة الاستحقاقات الانتخابية لتتصدر المشهد وتحاول قدر إمكانها بمَنهج إصلاحي بناء نظام إسلامي. تجربتي مصر وتونس هي خير دليل على نجاح نظرية " قطب" ألا وهي المجتمع أولا. تونس ومصر هما الدولتان اللتان لم ينجرا في حروب أو نزاعات على أساس طائفي أو عرقي مثل اليمن وسوريا وليبيا. لذلك سنحت الفرصة للحركات الوسطية الإسلامية في التعمق والتوغل بشكل ديمقراطي داخل الدولة والمجتمع وخوض التجربة.
دخلت جماعة الإخوان بشكل تنظيمي سريع في الاستحقاقات الانتخابية الخمس ونالت تأييدًا واسعًا على المستوى القاعدة التنظيمية لها أو على القاعدة الشعبية المجتمعية. وهو ما أثار كبريائهم مما دفعهم القول بأن المجتمع المصري يحبهم ويريدهم لأنهم ضحوا كثيرا على مر عقود مضت والدليل على ذلك فوزهِم بأغلبية في مجلس الشعب والشورى والرئاسة، ولكن سرعان ما تبخرت تلك القاعدة وانقلب الحب كرهًا شديدًا للإخوان وأفكارها وأشخاصها. مما مهد للسلطة العسكرية التي حقيقةً هي الممهدة والمخططة للأمر ذاته بانقلاب عسكري واقتلاع الإخوان المسلمين من جذورهم والزج بهم ليس خارج اللعبة السياسية فقط بل خارج الحياة المجتمعية المصرية بأكملها، قتل وسجن ونفي ومصادرة أموال وتصفية خارج القانون. كل هذا كان نتاج سباق القيادة الإخوانية نحو الخطوات وأولوية المشاركة وتصدر السلطة عن خطوات بناء المجتمع ووعيه وتوجيه شراعه نحو الأخلاق والعقيدة الإسلامية. ليكون بعد بنائه مهيئا لنظام إسلامي.
وأما عن تونس فقد تركت الحملات الاستعمارية الفرنسية بصمتها على المجتمع التونسي التي لا تنتهي من آثارها العلمانية الصلبة ومظاهر السفور وأدوات الإلحاد والتشكيك. فبعد الانتهاء من سباق الرئاسة ومكوث رأس الفلول الرئيس "السبسي" فوق عرش البلاد، أصبحت حركة النهضة في نقرة تخشى الصعود منها فتقع مجددا، تائهة بين فساد نظامي فلولي قامت عليه الثورة وبين مجتمع علماني يسعى إلى التحرر من المبادئ الأخلاقية. فسرعان ما شكك في الثوابت القطعية الإلهية "نصوص القرآن" وقدمت القوانين الحديثة لتلغي الشرائع مثل قانون إلغاء تعدد الزوجات وحق المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وحق زواج المسلمة من غير المسلم. وعلا صوت التشكيك في الإذاعات والقنوات والمنتديات والمؤتمرات الجماهيرية في شوارع الخضراء تونس. وما استطاعت النهضة الوسطية إلا دفع الدماء التي كانت غالبا ستسقط من أبنائها لو كانت تقدمت في السلطة أكثر من ذلك.
فربما أثبتت العقود والتجارب صحة النظريات القطبية في فقه التدرج لدعوة الوسط الإسلامي بعد ثورات الربيع العربي، فهل تستجيب الحركات الإسلامية لفكر صاحب الظلال في تجربتها مع المجتمع ودعوته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.