شعار قسم مدونات

أيعتذرُ موسى وأبو بكرٍ الصدِّيق وأنت متكبرٌّ لا تعتذر

blogs الاعتذار

نعم يا سادة هذا الكلام ليس ضرباً من خيال ولا مدحاً في الأوهام بل هي ثقافة الاعتذار وهي حقيقةً سُطِّرت في كتاب الله تعالى حينما وجد كليمُ الله موسى عبداً من عباد الله الصالحين وهو الخضر فأراد أن يتعلَّم منه ما لم يُعلمه الله لموسى. وهذه ثقافة أخرى وخلقٌ عظيم ألا وهو الأدب وثقافة التواضع فموسى عليه السلام رغم أنَّهُ كليمُ الله ونبيٌّ مرسل ومن أولي العزم من الرسل لكنَّهُ لم يتكبر ولم يستحي أن يتعلَّم من عبدٍ صالحٍ بعض الأمور التي خفيت عليه. بل وصل به الأمر أن يعتذر على عجلته لفهم بعض الأمور التي غابت عنه ولنسيانه للوعدِ الذي قطعه على نفسه بأن لا يسأل الخضر عن شيء حتى يحدِّثه الخضر عنه حين قال: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا). وكلُّنا يعرف ويقرأ تلك القصة.

وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فقد حدثت بينه وبين سيدنا عمر بن  الخطاب رضي الله عنه حادثةً وقع بسببها شيئاً في نفس سيدنا عمر فلمَّا علم سيدنا أبو بكر بذلك ندم ورجع إلى صاحبه عمر وسأله أن يغفر له وأن يسامحه ومع العلم أنَّ سيدنا أبي بكر أكبر سنَّاً وأعظم فضلاً من سيدنا عمر لكنَّ ذلك لم يدعه إلى التكبُّر وبيان ذلك واضحٌ في الحديث الذي رواه أَبِو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حيث قَالَ: (كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ وَقَالَ إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي).

فهذه هي أخلاق وثقافة الاعتذار عند كبار القوم وما أحوجنا اليوم إلى تلك الأخلاق والثقافة بين جميع أفراد المجتمع الصغير مع الكبير والكبير مع الصغير والرئيس مع المرؤوس والمرؤوس مع الرئيس والزوجة مع زوجها والزوج مع زوجته كي يعمَّ السلام والحبّ في مجتمعاتنا وتنتشر الطمأنينة بين الجميع. فكم من علاقاتٍ انتهت وكم من صداقاتٍ حميمةٍ دُمِّرت وكم من أسرٍ مرتبطةٍ فُكِّكت وكم من أزواجٍ وزوجاتٍ افترقوا بسبب أخطاءٍ كانت ستُنسى وتُمحى بكلمةِ اعتذار وندمٍ وعملٍ جميل يُصلح الخطأ. ولكنَّها الأنا والتكبر وكرامتي وكبريائي وغيرها من الكلمات الرنَّانة الطنَّانة التي ما دُمِّرت مجتمعاتنا إلا بسببها.

اعتذروا ولا تتكبروا وعن أخطائكم تراجعوا فما هذه الحياة إلا حياة قصيرة لا تتحمَّل منَّا الحقد والتكبر والكره والبغض وتمسَّكوا بأحبتكم وبصداقاتكم واعترفوا لهم بمشاعركم قبل فوات الأوان

فيا أيها الزوج إنَّ اعتذارك عن خطأك لزوجتك التي تحبها والتي تحمَّلت وتتحمَّل معك مشاكل الحياة ومشقاتها ليس ضعفاً في شخصيتك ولا نقصاً في رجولتك بل هو والله عينُ الرجولة وتمام وكمال شخصية الرجل القوي العاقل الذي يريد أن يحافظ على زوجته وبيته أمناً مطمئناً. وأنتِ أيتها الزوجة لا تسمعي لكلام من يريد خراب ودمار بيتك فتظنين أنَّ اعتذارك لزوجك إن أخطأتِ في حقِّه أو تحمُّلك لبعض أخطائه سينقص من كرامتك وعزَّتك بل والله إنَّ كرامتك من كرامة زوجك وسعادتك من سعادته فمن وهبت شرفها وأمَّنت على عرضها لرجلٍ أحبَّتهُ وأحبَّها فلا يمكنها بعد ذلك أن تنخدع بهذه العبارات الكاذبة فالذي استئمنتيه على عرضك وشرفك لا يمكنك أن لا تستئمنيه على كرامتك.

وأنت أيها الأب ليس عيباً إن اعترفت بخطأك مع ابنك أو ابنتك وليس عيباً أن يكون أولادك أعلم منك أو قد فهموا بعض الأمور أكثر منك فهذا هو أبونا ابراهيم عليه السلام يقول لأبيه (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا). بل والله إنه لمن العيب أن لا تسعى وتجتهد لتربي أولادك وتعلمهم ليكونوا أفضل وأعلم منك فلا تتكبر ولا تدمِّر علاقة الودِّ والمحبة مع أبنائك. وللمسؤول ولكلِّ من أعطاهُ منصباً نقول لا تجعل منصبك ومقامك يزيدك تكبراً فلا تسمع كلمات الناصحين ولا تريد أن تعترف بأخطائك وترى نفسك دائماً على الحق وتكون ممَّن قال الله عنهم (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) أي إذا ولاَّه الله منصباً ومقاماً استخدمه في الإفساد والظلم وإن جاءه أحدٌ ناصحاً ازداد تكبراً وطغياناً.

وللجميع أقول اعتذروا ولا تتكبروا وعن أخطائكم تراجعوا فما هذه الحياة إلا حياة قصيرة لا تتحمَّل منَّا الحقد والتكبر والكره والبغض وتمسَّكوا بأحبتكم وبصداقاتكم واعترفوا لهم بمشاعركم قبل فوات الأوان وقبل أن يرحلوا عنكم فتتمنون لو يعودون لكم ولو للحظة لتعتذروا لهم وتصلحوا ما أفسده تكبركم وجهلكم. ولكلِّ من أخطأ أحدٌ في حقِّهِ لا تردَّ من جاءك معتذراً نادماً على تقصيره وأخطائه خائباً وكن ذاك الشخص المسامح الكريم الذي تخلَّقَ بأخلاق الكبار وأصحاب الأنفس الطيبة فسامح وعفا وصفح وترك للودِّ مكاناً وللصلح مخرجاً ولم يترك للحقد والكره مكاناً في قلبه وكان مثله كمثل سيدنا يوسف عليه السلام الذي قال لإخوته عندما أتوه نادمين: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) رغم كل الأذى الذي تعرَّضَ لهُ بسببهم لكنَّهُ سامحهم وصفح عنهم. وكان وقَّافاً عند قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فمن أحبَّ أن يغفر الله له فليغفر زلاَّت الخلق ومن أراد أن يعفو الله عنه فليعفُ وليصفح عن عباد الله.

 

وأخيراً أقول للجميع ما هذه الدنيا إلا أيام وسنوات معدودات ثمَّ سيرحلُ كلٌّ منَّا للقاء ربِّه فلا تحملوا في قلوبكم الحقد والكره ولا تحمِّلوا أنفسكم متاعب وأحقاد الدنيا ولتعيشوا حياتكم مع الجميع ببساطة وبراحة وتواضع ولتعفوا ولتصفحوا ولتخبروا أحبَّتكم بمكانتهم في قلوبكم قبل فوات الأوان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.