شعار قسم مدونات

بالأمس كنت طفلة..

مدونات - امرأة ومرآة

بالأمس كنت تلك الطفلة ذات الخمسة أعوام، متسمرة على عتبات البيت أنتظر والدي المسافر! كنت أقضي ساعات طوال أجوب في خيالاتي وأعلن بين نفسي انتصاراتي. أقضيها بين كر وفر أحاول أن أجمع دخيرة عمري بين يدي وقودا وتصبرا أمام الانتظار الذي بات روتينا اعتدته وبات رفيق الفرص والأحلام والاماني التي لا تنتهي ولا تشيخ مع العمر..!
 
بالأمس كنت طفلة تقبل في صفها الأول وبربيع عمري السابع أنتظر دوري لتسجيل اسمي رسميا في كشوف الطلاب المقبولين في المدرسة! كان يوما خريفيا ذا برودة أيلولية ما زلت أحس بنسماتها تداعب وجنتاي المحمرتان توترا وخجلا من مقابلة الناس! لا زلت أذكر دمعاتي التي سكبتها خوفا من وهم المجهول الذي رحنا نتيه فيه منذ ذلك الحين.. فبعد سنوات من طفولة كانت شقية بين الدمى والكرتون، سأقضي رحلتي الطويلة بين الدفاتر والكتب.. أنكب عليها بالأقلام والألوان، فخبئت في ذاكرة أعوامي الابتدائية أعظم رحلات الانتصار على الذات، وسجلت أقصى درجات النجاح بطموح واتقاد! كانت قائمة الاصدقاء تكبر وتطول كلما كبرت عاما من ربيع العمر المنقضي على عجل!

 

بالأمس خطت أناملي أول قصصي القصيرة، فانذهلت معلمتي من مهاراتي الكتابية رغم بساطتها! ليته كان لي أن أخبئها حتى عامي هذا! كانت أوراق أخيطها بخيط ككتاب صغير، أكتب وأرسم وألون فيها كل الأحلام والخيالات الجميلة! حتى طلبت مني المعلمة اعداد سلسلة بسيطة لنعمل منها في الصف ما سمته ب مكتبة أسماء. وبالفعل أعددت سلسلة ودفتر اعارة صغير في الصف، بل ولم أكتف بمكتبة المدرسة، فأعددت صندوقا خشبيا ألصقته بخرانة الملابس وكانت مكتبتي المنزلية بعدد بسيط من قصص الأطفال وقصصي الخيالية.
 

بالأمس.. قررت العودة إلى مقاعد الدراسة أيضا وعدت! بالأمس حلمت وكبرت، خدلت وجبنت، تألمت وتعلمت، بكيت وضحكت، أقبلت على الحياة وأدبرت، نضجت في انتظار اليوم!

بالأمس توجت في صفي السادس في المرتبة الاولى وبدرجات مرتفعة، كان أول صف أعلن فيه تفوقي على ذاتي واكتشاف قدراتي في جميع المواد الدراسية، ما زلت أذكر الحفل الجميل الذي اعدته المدرسة للتكريم! كان يوما استثنائيا اذ كان الحفل يشمل أناشيدا ودبكة بأثواب فلسطينية قمت بأداء الاناشيد جميعها وكلي فرح وسرور!
 
بالأمس همست لي احدى معلماتي الرائعات بأن نتيجة امتحاناتي على مستوى المنطقة هي الأعلى، وأن ما قدمته في امتحاني اللغة العربية والرياضيات كانا على مستوى عال لم يكن له مثيل بين الطلاب في جميع المدارس! كانت ورقتي باللغة العربية مزينة بتوقيع المصحح، احتفظت فها طويلا لأنه كتب عليها سيكون مستقبلك رائعا وتذكري هذا المرور..
 
بالأمس قبلت في الفرع العلمي وبدأت رحلة الجد تعلو وتيرتها، عام وأكثر قليلا سنحصد عناء سنوات طويلة! كانت رحلة زينتها الأيام في قلوبنا رغم مرارتها التي هانت بعد سماعي النتيجة! وبين دموع وسجود شكر استقبلت أول خبر مفرح لي! كان خبرا حقيقيا كفيلا بإعطائي الثقة والاصرار لأستقل رحلتي الحقيقية مع الأيام!

 
بالأمس كنت أحلم بالطب البشري فقبلت لظروف عديدة في الهندسة! لكنني ما كللت وما مللت! ما برحت حتى بلغت أعلى المراتب والدرجات! كانت تلتف حولي زميلات الدراسة، نكتب ونقرأ ونتعلم! كانت رحلتي في الجامعة طويلة شاقة، لكنها عبرت كما عبرت الحواجز التي هي أشد منها قسوة وضراوة! وباتت تتقلص قائمة الأصدقاء حتى اختفى الكثيرون وابتلعت الأيام وصروفها أغلب من تشاركوا معنا المقاعد والمرافق وصحبة الأيام الجميلة!
   undefined

 

بالأمس كنت في السوق منهمكة لشراء ملابس احتفال التخرج! أذكر كل المحلات التي دخلتها أبحث فيها عن قميص وبنطال بلون يتناسق مع روب التخرج! كان يومها يوم صيفي حارق من أيام تموز! ببضع صور ولحظات جميلة انقضت رحلتي الجامعية الاولى لكي أستقل رحلة العمل والحياة الحقيقية.. انقضى العاشر من تموز كوميض خاطف كالبرق لكنه طبع في الذاكرة ببصمة فرح لن تنسى أبدا..
 
بالأمس كان يومي الأول في مكتبي هذا كعمل دائم بعد ست أشهر من التجارب القصيرة والفرص المتناثرة هنا وهناك، كنت صائمة وكان السادس من رمضان قبيل عشرة سنوات من يومي هذا! أذكر أول يوم لي في المدرسة! وأول يوم لي في الجامعة! تتشابه البدايات كثيرا لدي برهبتها وغموض ما ترنو اليه مع مرور الايام.. فاتسعت دائرة المعارف وضاقت قائمة الاصدقاء كثيرا! الاحتكاك الحقيقي مع الحياة هناك قد بدأ..

 
بالأمس وجدتني أحلم.. و بالأمس قررت أن أعود للكتابة بشغف وحماس فعدت! قررت العودة إلى مقاعد الدراسة أيضا وعدت! بالأمس حلمت وكبرت، خدلت وجبنت، تألمت وتعلمت، بكيت وضحكت، أقبلت على الحياة وأدبرت، نضجت في انتظار اليوم!

واليوم أسائل نفسي: أين قضي العمر مني؟ من سرق من من؟ أهي الأيام سرقت عمري على غفلة مني؟ أم هو العمر سرق الأيام معه على عجلة منه لينقضي؟ إيه أيتها الأيام لو أن لي بك قوة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.