شعار قسم مدونات

النعمة والعمل.. وقفة في ظلال سورة قريش

blogs قرآن
تعد سورة قريش من السور المكية في قول الأكثرين ومدنية عند البعض كما يوضح ذلك ابن الجوزي رحمه الله، نزلت هذه السورة بعد سورة التين، وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة قريش" لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها من السور، وسماها البعض "لإِيلاف قرَيش" لكن الاسم الأول هو المعتمد، وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور حيث نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة، وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين، وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور لكن الإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك، وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات كما بين ذلك ابن عاشور رحمه الله في تفسيره "التحرير والتنوير".

 

لهذه السورة المباركة علاقة بالسورة التي قبلها وهي: "سورة الفيل" حيث يرى بعض المفسرين أن الجار والمجرور في بداية السورة متعلق بـ"جعل" في قوله تعالى في سورة الفيل: "فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ" (الفيل:5) وبعضهم يراه متعلقا بـ"يعبدوا" في قوله تعالى: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ" (قريش:3) والمقصود من هذا أن الله تعالى يُذَكِّر قريشا بجملة من النعم التي أنعم بها عليهم مقابل أن يعبدوه سبحانه وتعالى ويوحدوه، ومنها إهلاك الله تعالى لأعدائهم الذين أرادوا هدم الكعبة وإسقاط رمزيتها التي إن سقطت ستسقط معها هيبة قريش في المنطقة، وكذا نعمة حب الرحلات التجارية والسكون إليها، ثم نعمة الأمن سواء داخل مكة أو خارجها أثناء رحلاتهم التجارية رغم المخاطر المحدقة بهم من كل جانب وحالات السلب والنهب المنتشرة، وكذلك نعمة الشبع، فالله تعالى ميزهم بهذه النعم ومن عليهم بها وهذا ما يؤكده القرآن في آيات أخرى قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ" (العنكبوت: 67)، وقال: "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (القصص: 57).

 

يأتي الترغيب الرباني في العبادة في زمن الشدائد والمحن فيقول صلى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" لأن النفس حينها تكون منشغلة بالأحداث الحاصلة والمصائب المدلهمة

وهكذا نلاحظ الربط الواضح بين إهلاك أصحاب الفيل من جهة ونعمة الأمن من جهة أخرى، وكذا بينن رحلتي الشتاء والصيف من جهة ونعمة الشبع من جهة أخرى، فإهلاك أصحاب الفيل نعمة خادمة للأمن السياسي والاستقرار الداخلي في مكة وهذا ما جعل لمكة هيبتها في المنطقة، ورحلتي الصيف والشتاء نعمة خادمة للأمن الغذائي وهذا ما جعل مكة ملتقى للتجار وجاذبة للاستثمار حيث تورد إليها السلع والمبيعات دائما وخاصة في موسم الحج، ثم نلاحظ الربط بين الأمن السياسي والأمن الغذائي في هذه السورة فالاستقرار الأمني والسياسي من أهم مقومات التنمية فلا تنمية بلا استقرار، والتنمية من أهم مقومات النهضة في المجتمعات.
 
وبعد ذكر هذه النعم يأتي بيان الهدف منها وهو عبادة الله حق عبادته والشكر له حق شكره فأمام هذه النعم لا يمكن للإنسان العاقل إلا أن يشكر ربه المنعم المتفضل الوهاب، والشكر له معنى أكبر من الحمد فإن كان الحمد اعترافا قوليا بالنعمة فالشكر اعتراف قولي وعملي بحيث يسخر الإنسان هذه النعم لما خلقت لأجله، وإلا حل البوار وحلت الخسارة.

 

ولذا جاء في الحديث عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ" ليؤكد هذا الحديث أهمية العبادة أكثر عندما تكون الظروف مهيأة والأسباب ميسرة لأداء العمل على الوجه الأكمل، ولذا نزل الغبن وحلت الخسارة على قوم تُذلل لهم الأسباب وتُهيء لهم الوسائل ولا يستغلونها؛ وأتت الأحاديث الصحيحة مرغبة في اغتنام الصحة والفراغ والشباب والغنى والعمر، ثم في المقابل يأتي الترغيب الرباني في العبادة في زمن الشدائد والمحن فيقول صلى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" لأن النفس حينها تكون منشغلة بالأحداث الحاصلة والمصائب المدلهمة، ولا بد من إخراجها من الحيرة والذهول إلى العمل، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من قول أو عمل، وفي هذا كله إشارة إلى أنه لا مناص للإنسان من العمل ولا مفر له ولا مهرب من ذلك في أي حالة كان؛ قال تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان