شعار قسم مدونات

الوطن في ذاكرة مغترب

blogs رجل يفكر

كم كان الحنين شريرًا ذلك اليوم الذي أثقل بآلامه كاهلي!!

من نافذة غرفتي الهادئة وأنا أرقبُ منظر الغروب، بدأتْ قوافل التفكير تتوافد على عقلي من كل حدبٍ وصوب، كم أحسست حينها بألم الوحدة وقسوة الغربة في حين مقلتي المتعبتين تشهد منظر مغيب شمس ذلك اليوم وهي تشرح في مشهد غروبها معنىً ساميًا للحياة! زاد شجني رخامة صوت أم كلثوم وهو يستل إلى أُذُناي من سماعة حاسوبي وهي ترنِّم كلمات من قصيدة إبراهيم ناجي:

يا حبيبي كل شيءٍ بقضاء .. ما بأيدينا خُلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا .. ذات يومٍ بعد ما عزّ اللقاء
فإذا أنكر خلٌ خله .. وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته .. لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء

 
سبحت آلامي مع كلمات تلك الأغنية إلى مداءاتٍ بعيدة، لأنني ولأول مرة أجد الألم ممزوج بالحكمة والجمال ويجمعهما في مقطوعة غنائية واحدة، قلت حينها في نفسي "لو أن الألم أغنية لعشقته". تغيّر لون سحنة وجهي القمحي فازداد قتامة بعد أن تذكرتُ ما يتذكره الغريب وقت غربته، لقد تذكرت وطنًا يحمل بين أحضانه أهلًا وأحباب، تذكرت أن لي أُمًا ترقب مجيئي في أي لحظة من اللحظات، فقد طال بي الغياب وازداد بنا الشوق واللهفة إلى اللقاء. حاولت أتخيل صوت أمي الهادئ وهي خارجة من بيتنا القروي نحو الحقول فضاعت من ذاكرتي نبرات صوتها، أغمضت عيناي لعلي أتذكر على الأقل بعض ملامح ثيابها القروية فعزّ علي ذلك، هيَّجني حالي فلم ألحظ نفسي إلا وقد اغرورقت عيناي بدموعٍ تنعي بين عبراتها مآسي وطن مكلوم أجبرتنا جراحه على أن لا نقترب منه حتى لا يغرقنا بنزيف دمائه، فبدأت أتساءل في نفسي " يا ترى هل الحياة قاسية لدرجة لا تسمح لنا بالعيش كما البقية؟".
 

تمنيت وقتها لو أن بلدي تشهد تلك التغيرات كما تشهدها الكثير من البلدان الأخرى، ولكن تذكرت أن بلدي لا يحتاج إلى أمنية واحدة فقط لتحقيقها، إنه يحتاج إلى أمنيات كثيرة 

قررت أن أترك غرفتي وأخرج من نفسي، لعلي أجد بعض الراحة بين جموع الناس، فالوحدة تخلق الآلام وتتفنن في اختلاق الأفكار البائسة. بما أن مدينة قونية التركية تشتهر بكثرة الحدائق قررت أن ألوذ إلى إحداهن لعلي ألتقي بنفسي في حضرة الطبيعة وسط جوٍ من الهدوء، بعيدًا عن المسكنات والعقاقير الطبية. ركبتُ قطار الـ ترام واي قاصدًا إحدى الحدائق العامة، وفي الطريق إلى المكان المقصود تفاجأت بمدى التغيرات التي قامت بها بلدية تلك المدينة -قونية- فوجدت أبنية قديمة تم تجديدها، وأماكن مقفرة تم إحياؤها وتزيينها، وجدت أشكال جديدة لمحطات الحافلات وأرصفة كانت مهملة تم رصَّها، أنظر إلى الجهة الأخرى من المكان فأجدني أمام حديقة غنّاء مليئة بالزهور المتنوعة والورود الجميلة ذات الأولوان الزاهية وهي تهبُ المكان بعضًا من جمالها.
 
ارتاحت نفسي لتلك الأشياء الجميلة وانفتحت سرائري. زحمة الركاب عكّر صفوة مزاجي مع تلك المناظر، فرجعت بعيني إلى حيث مكاني لأجدني أمام شاشات بلازما مثبته في جوانب الـ ترام واي موضوعة أمام أنظار الركَّاب بطريقة تسمح للجميع بمشاهدتها، لقد كانت تلك الشاشات تنشر الوعي بين المواطنين بطرق حضارية وحديثة، أعجبتني تلك فكرة شاشات البلازما وهن يعرضن بعض الفيديوهات التوعوية للمواطنين وبعض الأخبار عن ما تقوم به الدولة، أحسست وكأن الدولة تعبد الشعب وتتلطف بهم، ولذا تقول لهم "انظروا ماذا نفعل من أجلكم ومن أجل وطننا.
 
أخيرًا وقفت مع نفسي بعض الوقت وكأنني جديد على هذه الأماكن التي ما غبت عنها سوى لأسابيع بسيطة لا أكثر، ولكن مع التغيرات التي طرأت عليها جعلتني أشعر وكأنني غبت عنها لشهورٍ عديدة، حاولت أن أُمني نفسي لأهدأ بعض الوقت إلا أن غريب الوطن مهما حاول تجاهل ما تراه عيناه إلا أنك تجده يربط كل شيء يراه في غربته بوطنٍ تمنى رؤيته بحالٍ جيد ولو لمرة واحدة.
 
لا أخفيك أيضًا أنني تمنيت وقتها لو أن بلدي تشهد تلك التغيرات كما تشهدها الكثير من البلدان الأخرى، ولكن بعد تلك الأمنية تذكرت أن بلدي لا يحتاج إلى أمنية واحدة فقط لتحقيقها، إنه يحتاج إلى أمنيات كثيرة لابد أن تُحقق حتى ترجع المياه إلى مجاريها، ولكن من للمتمنيين فيحقق أمنياتهم، ومن للحالمين فيحقق أحلامهم، وصدق أحمد شوقي حين قال: وما نيل المطالب بالتمني.