هل تعلم كم مليارًا خُلق منذ آدم؟ هل أنت معني جدًا بأن تعلم؟ حسنًا، هنالك طريقتان للإجابة، الأولى بالأعداد، وهو على الأغلب، مجرد عدد مكون من أكثر من عشرة أرقام، فيها الإنسان ليس في النهاية سوى رقم، وجود إنسان بذكرياته ومشاعره ومشاكله الصغيرة التي يقرن بها نهاية العالم أضاف واحداً إلى خانة الآحاد من هذه الأرقام العشرة. والثانية بالأسماء. كل واحد يستطيع أن يحدد (عن طريق اختياراته في الحياة) بأي الطريقتين يحسب وجوده، عادةً فإن الذي يمر من الحياة عبر ممراتها الإجبارية مغمض العين (أو العقل على الأغلب) لن يكون أكثر من إضافة رقمية في المعادلة الكبيرة.
لكنْ قِلَّةٌ قليلة هي التي تعيش وتتمرد على هذه المعادلة، وتكتب اسمها بالأحرف لا بالأرقام، نعم، لا أجد للمميزين وصفًا أكثر دقة من "متمردين"، المشترك بين معظم هؤلاء المتمردين أنهم دائمًا منتصرون، طالما تمردوا على المعادلة فقد انتصروا، مشترك آخر، أن معظمهم وُصفوا بالمختلين عقليًا، بينما كانوا "مختلفين" عقليًا وحسب، هم لم يكتسبوا تميزهم عن الآخرين، بل في الحقيقة حافظوا عليه طوال الوقت فقط.
تحذير قبل أن تكمل، هذا المقال ليس مقالًا في التنمية البشرية، هو مجرد وصف للصراع الذي يعيشه المميزون بين الحاجة إلى التميز، وضرورة عبور الممرات الإجبارية.
صحيحٌ أن المبدعين عَبَرُوا دائمًا ممرات الحياة الإجبارية، هذه الممرات المملة أحينًا، المتعبة أحيانًا، والقاتلة أحيانًا أخرى، لكنهم يعبرونها -كل مرة- بطريقتهم، ويضعون شروطهم عليها |
منذ أن قرأت رائعة ‘عالم صوفي‘ أتذكر دائمًا ما قاله جوستاين غاردر، أن "الفلاسفة والأطفال يملكون صفة كبيرة مشتركة، فالفلاسفة يحتفظون طوال حياتهم بجلد رقيق كجلد الأطفال"، لا يستطيعون التعود على العالم كما هو، فهو يظل لغزًا مبهمًا بحاجة إلى التفسير المستمر، وهكذا فهم يخضعون كل شيء إلى فهمهم الخاص. الأطفال كلهم مختلفون، كلهم مميزون ومبدعون، هنالك من يستمر بطرح الأسئلة، لماذا يجب أن أفعل هذا، ولماذا هو هكذا؟ وماذا سيحصل لو فعلت كذا بدلًا من ذلك؟ وهل هذا مفيد حقًا؟ وكيف يحصل؟ ليس بالضرورة أن يحصلوا دائمًا على أجوبة لأسئلتهم، ولا أن تكون الأجوبة التي يحصلون عليها أحيانًا صحيحةً دائماً، المهم هو الاستمرار في طرح الأسئلة، الاستمرار في ممارسة هواية الشعور بالدهشة والحاجة إلى الحصول على تفسير، ما يعني استخدام حاسة التفكير، التي لا يتعلم الأطفال العاديون في المدرسة أنها من حواس الإنسان، وباختلاف العقول من إنسان لآخر، تختلف طريقة ممارسة التفكير، وبالتالي نحصل على أفراد مختلفين، أو بكلمات أدق نحافظ على بعض الأفراد مختلفين.
لكن في المقابل، ومع مفهوم الحواس الخمسة التي تعتمد على التلقي لا الإنتاج، فإن هذا الاختلاف يختفي تدريجيًا عند معظم الأطفال، ويتحولون إلى نسخ، يظهر هذا بوضوح حال دخولهم المدرسة، التي يوبخون فيها عادة عند الإكثار من طرح الأسئلة، ويتعلمون منذ أول أيامهم فيها أن المميز هو الذي يلتزم بالتعليمات، رغم أن الالتزام الصارم هو عكس التميز، فيخرجون منها بنموذج واحد للحياة، بعضهم ينجح في الوصول إليه، وبعضهم يعيش مع الشعور بذنب فشله في الوصول إليه، فيلجأ للانصياع إلى النموذج الجديد الذي تفرضه الحياة عليه، وكلما عجز عن الوصول إلى النموذج شعر بالفشل فإما أن يلقي باللوم على الآخرين أو يعيد محاولة الوصول إليه، دون أن يفكر في حاجته الحقيقية للوصول إلى هذا النمط.
نعرف أن من ينتج الموسوعات والكتب العلمية التي تبث الحياة في العالم -رغم أنها تطبع على الورق- ليس هو مصنع الورق، الذي يعتمد في الأساس على إنقاص نسبة مصادر الأكسجين (وسيلة حياة الكوكب)، وكذلك مصنع الأنماط والنسخ الذي تشكله هذه الحياة التقليدية (والتي أصفها بالحياة مجازًا) فإنه بالتأكيد لن ينتج هذا النوع من المبدعين والمؤثرين، من المختلفين عقليًا، صحيحٌ أن المبدعين عَبَرُوا دائمًا ممرات الحياة الإجبارية (كما يحب والدي أن يسميها)، هذه الممرات المملة أحينًا، المتعبة أحيانًا، والقاتلة أحيانًا أخرى، لكنهم يعبرونها -كل مرة- بطريقتهم، ويضعون شروطهم عليها، ربما هي لا تكترث لهم ولشروطهم، وهم لا يغيرونها، لكنهم يعلنون -ولو بين أنفسهم- رفضهم لها وتمردهم عليها، موقنين أن هذه الممرات التي تسلبهم الأكسجين لا يمكن أن ترده إليهم.
عالمنا، كما يبدو لنا، مجموعة من الأنماط المتشابهة تمامًا رغم تفاوت الدقة في النَسْخ، في الجامعة والمدرسة نمط الذي يحفظ المعلومات، يسمع الكلام ويلتزم النظام، ويشعر بضرورة تنفيذ حذافير الأوامر، دون أن يشعر بالرغبة في فهمها، ثم بعد الدراسة معدله الدراسي ومجموع علاماته هو ما يحدد خياراته حسب تصنيفات المجتمع والمؤسسة، وبعد التخرج مسماه الوظيفي هو الذي يحدد مستواه الاجتماعي، وسنّه هو الذي يحدد استعداديته للزواج أو فوات أوانه، ونسبه يحدد شريك حياته، ويستمر التنميط إلى أن يموت فيحدد دينه طريقة دفنه (أو ربما حرقه أو إلقائه في النهر)، والتعاطف معه أو الترحم عليه.
أما عالمنا، كما نتمناه، فهو مجموعة من المجتمعات المليئة بالتشابه والاختلاف، تعطي الفرد حرية أن يظلّ طفلًا، أن يشعر بالحاجة لممارسة التفكير فيما يجب فعله، دون الاكتفاء بفعله، الحرية في تحديد الاختيار المناسب والوقت المناسب والأشخاص المناسبين، الراحة في اختيار الطريق المناسب وتحمل تبعات الاختيار غير المناسب، عالم يعترف بالألوان كلها، دون حصرها في الأبيض والأسود، لا يحصر أفراده داخل إطارات مسبقة التصميم، بل يعيش أفراده نصيحة ديل كاسو في لوحة الهروب، عالم لا يعترف بالأرقام، ولا يكترث بإصدار إحصائيات عدد سكان العالم السنوي.
وعليه، أعتقد أن علينا أولًا، وقبل المطالبة بحرية التعبير، أن نطالب بحرية التفكير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.