قرابة 60 مليون قطعة سلاح منتشرة في اليمن، وهو رقم مهول بالنسبة لدولة يبلغ تعدادها السكاني 26 مليون مواطن يعيشون على خط الفقر وتتقاذفهم نزاعات طائفية وسياسية وفكرية معقدة، جعلت من البلاد قطعة من جحيم أبدي يطال لهبه كل جميل في عموم البلاد. كان السلاح ولازال جزءا لا يتجزأ من هوية المجتمع اليمني، والذي جُبل على ثقافة اقتناء السلاح وفقا للعادات والتقاليد الراسخة في ذاكرتهم الجمعية على مر التاريخ، بيد أن السلاح ظل واحدا من الأسباب التي قوضت استقرار الدولة والمجتمع اليمني وأعاقت مشاريع التنمية فيه طوال العقود الماضية، إذ كان سببا في موت أكثر من 1200 شخص سنويا حسب سجلات وزارة الداخلية اليمنية، وتتوزع تلك الحوادث بين قتل متعمد بسبب خلافات سياسية أو دينية أو أسرية أو اجتماعية، وقتل بالخطأ بسبب حوادث اللعب بالسلاح في المنازل أو المناسبات الفرائحية، ناهيك عن كونه أداة الصراع الأولى بين أطراف الصراع الحالي في البلاد.
أعطى القانون اليمني الحق للمواطن بحيازة الأسلحة النارية الشخصية وحصرها في البنادق الآلية والمسدسات وبنادق الصيد مع كمية من الذخائر، بحسب القانون رقم (40) لسنة 1992، ولذلك فقد ساهمت الدولة فعليا في انتشار السلاح ولو بشكل طفيف في فترة استقرار الدولة، وشجعت الناس على حيازته بشكل غير مباشر، بيد أن الأمر تطور في أعقاب انهيار مؤسسات الدولة عقب ثورة فبراير 2011 وازدهرت ظاهرة انتشار السلاح وتجارته وأسواقه، لتصبح الأسلحة المتوسطة كالرشاشات وقذائف الآر بي جي في متناول المواطنين وتباع في أسواق رسمية إلى جانب الأسلحة الشخصية الخفيفة المصرح بها من قبل الدولة نفسها.
اليوم باليمن ووسط هذا الحقل المفخخ بأصناف السلاح يقضي البسطاء والعامة في البلاد حياة بائسة تتربص بها فوهات البنادق ويعزوها الخوف من طوارق ومنغصات السلم الذي غادرهم باكرا |
يأتي تواطؤ الدولة وتسترها على تجار السلاح في مقدمة تلك الأسباب، وذلك عن طريق تسهيلها لعبور شحنات سلاح تابعة لشخصيات نافذة عبر موانئها الرسمية إلى البلاد، ذلك التواطؤ تسبب في إغراق البلاد بأصناف من الأسلحة الألمانية والأمريكية والروسية والتشيكية.. إلخ، كما أن الدولة تعرف أسماء تجار السلاح وأسواق السلاح ولم تبد أي رد فعل حازم تجاه أنشطتهم الخطيرة في قلب المجتمع، ولما كانت تجارة السلاح وسيلة سريعة للثراء الفاحش فقد نشطت في عموم البلاد، وخصصت أسواق لبيع السلاح في مختلف مدن البلاد، كسوق جحانة – مديرية خولان – صنعاء والذي يعد أكبر أسواق السلاح في البلاد، يليه سوق الطلح – صعدة ويباع في تلك الأسواق مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وبأسعار باهظة جدا.
يقول الدكتور علي البريهي عميد كلية الإعلام السابق بجامعة صنعاء: "غياب الدولة في اليمن بمفهومها الوظيفي منذ زمن طويل هو سبب رئيس في انتشار السلاح. كما أن السلطات القائمة كانت تعزز من انتشار السلاح وتساعد في خلق الفوضى والصراع. وكانت تدير الشأن اليمني بمنطق العصابة الذي لا يتحمل أي مسؤولية أو تبعات. وقد تأسس على ذلك التعايش مع سلوكيات الغاب المتوحشة التي تتوسل السلاح للسطو وبسط النفوذ".
ثاني تلك الأسباب يتعلق بالبعد الثقافي لحمل السلاح، إذ يرى اليمنيون فيه لازما من لوازم الزينة، ومعززا لمكانة الرجل في مجتمعه، ووسيلة للتعبير عن الفرح والكرم في المناسبات المهمة، كما يرون فيه صمام أمان يقيهم بطش خصومهم ويمكنهم من حماية أنفسهم في أوقات السلم والحرب، وبالإضافة إلى ما سبق فإن حالة عدم الاستقرار السياسي دفعت بالمواطنين إلى شراء الأسلحة تحسبا لأي مخاطر قد تهدد حيواتهم أو ممتلكاتهم، وفي هذا الصدد يقول محمد الموشكي -صاحب بقالة-: "لقد كنت مضطرا لشراء آلي لأحمي نفسي ففي ظل الانفلات الأمني لا يوجد أمان وأنا أجلس في بقالتي إلى الحادية عشرة مساء وهناك الكثير من عصابات السطو المسلح تنتشر في البلاد والحذر واجب".
في ظل حالة اللااستقرار تمكنت الجماعات المسلحة من شراء السلاح بكميات مهولة وقامت بتكديسه في مخازن سرية لرفد وتعزيز تواجدها المسلح وتحقيق مآربها السياسية والدينية والاجتماعية في كل المناطق اليمنية الملتهبة، كما استغل الكثير من رجال القبائل والنافذين حالة الانفلات الأمني ونهبوا أسلحة خفيفة وثقيلة من معسكرات الجيش واعتبروها غنائم، كمؤشر واضح على انهيار مقومات الدولة وضبابية مستقبل البلاد. المؤسف أن غالبية القوى القبلية المنصهرة في بوتقة الصراع السياسي القائم لا يرجون السلم ولا يلقون له بالا، ويرون أن السلاح هو قانونهم المفوض تجاه الخلافات القائمة، والتف المثقفون والكثير من حملة الشهادات الجامعية خلف هذا التوجه القبلي خصوصا بعد تدويل ملف الأزمة اليمنية والتدخل الدولي فيها، الأمر الذي فاقم المأساة ودفع الأزمة اليمنية نحو مزيدا من التصعيد والتعقيد، وكالعادة كان للسلاح الدور الأبرز في تلك المأساة.
اليوم ووسط هذا الحقل المفخخ بأصناف السلاح يقضي البسطاء والعامة في البلاد حياة بائسة تتربص بها فوهات البنادق ويعزوها الخوف من طوارق ومنغصات السلم الذي غادرهم باكرا، وترك لهم خيارات أمنة محصورة وغير مضمونة في ظل سيطرة لغة البارود على مجمل يومياتهم المحفوفة بالوجع، رغم الفاتورة الباهظة التي دفعت من دمائهم كثمن لتمدد ظاهرة انتشار السلاح، وعليه تضاءلت فرص السلام أمامهم خاصة وقد أصبح السلاح معيارا لفرض الحلول ووسيلة المتحاربين لفرض واقع سياسي وعسكري يخدم مصالح ضيقة لكل طرف ضد الآخر، وبمعزل عن المصلحة العامة لـ 26 مليون يمني.
اليمن اليوم بحاجة لتحكيم لغة العقل أولا، وكبح جماح العنف بتقييد لغة السلاح وإعادة النظر في القوانين التي أجازت حمل السلاح للعامة وذلك إما بإزالتها من الدستور أو تعديلها بما يسهم في الحد من ظاهرة انتشار السلاح وتجفيف مسبباتها، وكذلك بإرساء قيم العدالة وإنفاذ القانون الأمر الذي يعيد رسم ثقة المواطن بالدولة وبالتالي يأمن على نفسه وممتلكاته ويولي مسألة أمنه وحمايته للقنوات الرسمية في الدولة، إلى جانب ذلك على الدولة نفسها أن تطلق برامج توعية في أوساط المجتمع بخطورة وآثار السلاح بهدف غرس فكر مدني تقدمي في أبناء القبائل الذين يشكلون جزء رئيسيا في الصراعات والنزاعات المسلحة على مستوى الداخل اليمني عبر التاريخ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.