شعار قسم مدونات

الحاج مراد.. حكاية أرض منسية

مدونات - رواية الحاج مراد
أغرم بمشاهد الجبال القوقازية بعد ذهابه في رحلة إلى هناك رفقة شقيقه، فكان هذا سببا مباشرا في انضمامه إلى الفرقة الروسية القوقازية المقاتلة ضد قبائل السهول التتارية، وكانت مشاركته في بعض المعارك ضد جيش المريدين بقيادة الإمام شامل الداغستاني مقدمة لكتابة واحدة من أجمل رواياته على الإطلاق، وإن لم تكن تحظى بنفس شهرة أعمال أخرى.
 
كتابنا لهذا الأسبوع هو رواية "الحاج مراد" أو "خادجي مورات" (Хаджи-Мурат) للأديب الروسي الخالد ليو تولستوي الذي سبق وأن تناولنا مقتطفات من سيرته الحافلة في تدوينة سابقة تطرقت لعلاقته المضطربة بزوجته. كتب تولستوي هذه الرواية بين عامي 1896 و1904، لكنها لم تنشر إلا بعد وفاته سنة 1910.
  
تحكي الرواية قصة الحاج مراد، أحد القواد الكبار في جيش الثوار المريدين العاملين تحت إمرة الإمام شامل الداغستاني، يختلف مع قائده ويضطر للتحالف مع أعدائه الروس بغية استعادة حقه. راوغ الروس الحاج مراد، ولم يساعدوه بشيء، فعاد إلى مناوشتهم وقتالهم، قبل أن يتمكن الجيش الروسي من محاصرته والقضاء عليه فيما بعد، رغم مقاومته العنيفة والشرسة.
 

ترجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية أكثر من مرة، لكنني أنصح بترجمة جديدة صدرت مؤخرا عن دار التنوير، للمترجم هفال يوسف، يمكن القول أنها الأفضل
استند تولستوي في روايته هذه على أحداث حقيقية عايشها أو سمع عنها خلال تواجده في الجبهة القوقازية، مع بعض التعديلات المناسبة للحبكة الروائية، فمعظم الشخصيات كالحاج مراد والإمام شامل وغيرهم هي شخصيات واقعية عرفها تاريخ المنطقة الملتهبة بالصراعات.
 
هي رواية أخرى تنتصر للمهمشين، لأولئك الذي أوقعهم سوء الحظ الجغرافي في أطراف الدول الكبرى، ما يحولهم إلى ضحايا للصراعات العسكرية والسياسية، رغم شجاعتهم وإقدامهم في ساحات القتال، والشعب الشيشاني المسلم أحد أبرز الأمثلة لهذا الطرح، ويمكن القول بأن فهم جذور المشكل الشيشاني يعتمد بالدرجة الأولى على تتبع خيوط الصراع منذ القرن التاسع عشر، ولن نجد أفضل من هذه الرواية لجميلة كمقدمة للإطلاع على هذه البقعة المنسية التي لا تقفز إلى إذهاننا إلا باسترجاع بعض الأحداث المعاصرة أو ما يعرف بحرب الشيشان الأولى (1994) والثانية (1999) وبعض الحوادث الأخرى كاحتجاز رهائن مسرح موسكو وغيرها..
  
في نفس السياق، صور تولستوي ببراعة شديدة حال الجيش الروسي في تلك الفترة، فالجنود الصغار يموتون، والضباط لا يهتمون سوى بالقمار وسرقة صناديق الميزانية والتغزل بزوجات بعضهم، فيما يحكم روسيا رجل جاهل يخطئ في الكتابة والإملاء ويدعى نيقولاي وهو ما يشبه إلى حد بعيد ما اتفق معظم أدباء روسيا القيصرية في تلك الفترة على تصويره بدقة شديدة، وما رواية "بطل من هذا الزمان" لميخائيل ليرمنتوف (التي تحدثنا عنها أيضا في تدوينة سابقة) عنا ببعيدة.
  
undefined
 
وعلى النقيض من ذلك، يبرز لنا ليو تولستوي طبيعة الشعب الشيشاني مجسدا في شخصية الحاج مراد، المستقيم والقابض على دينه وأخلاقه، بدرجة تجعل فاتنات الروس يقعن في غرامه لما أظهره من معالم الرجولة والشجاعة والإقدام، والحفاظ على المبادئ حتى الممات، وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت ليو يحجم عن نشر هذه الرواية في حياته (رغم الحديث الرسمي عن مشاكل الحقوق وخلافه)، هو الذي عانى أصلا من تضييق السلطات بسبب أفكاره ومناداته الصريحة باللاعنف وتجنب الحروب التي لم تخلف وراءها سوى الضحايا من الأبرياء.
 
هي رواية مميزة، وإن لم تكن تحظى بشهرة "الحرب والسلم" و"آنا كارنينا"، فقط أجد أن هذه المراجعة السريعة قد تكون فرصة لتقديم نصيحة صغيرة: ترجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية أكثر من مرة، لكنني أنصح بترجمة جديدة صدرت مؤخرا عن دار التنوير، للمترجم هفال يوسف، يمكن القول أنها الأفضل والأكثر اكتمالا مقارنة بالترجمات السابقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.