شعار قسم مدونات

دين الفطرة

مدونات - دين الفطرة
فيلسوف قادم من عصر التنوير، نشأ كالفينيا، في وسط يموج بالصراعات بين الكاثوليك والبروتيستانت، ولم يكن هو بمنأى عن هذا الصراع، عندما حاول البعض تحويل مذهبه إلى الكاثوليكية، لكنه عاد في نهاية المطاف إلى عقيدته الأصلية، وقرر أن يكتب عنها، لكن بطريقة متخيلة عبارة عن حوار بين راهب منعزل في الجبال، ومريد حاول الوصول إليه للاستفادة من معرفته..

كتابنا لهذا الأسبوع هو "دين الفطرة"، أو "عقيدة قس من جبال السافوا" Profession de foi du vicaire savoyard للفيلسوف المولود في مدينة جنيف جان جاك روسو، صدر الكتاب لأول مرة عام 1761، فيما تولى المفكر والمؤرخ المغربي الكبير عبد الله العروي ترجمته إلى اللغة العربية، ونشرت الطبعة المترجمة عن المركز الثقافي العربي سنة 2012.

  
يبدأ الكتاب في نسخته المترجمة بتقديم من العروي يحاول فيه شرح مضمون الكتاب والتأمل في عقائد القرن الثامن عشر في الغرب والبحث في إمكانية وجود تقارب بينها وبين الفكر الإسلامي بعد قرون طويلة من الصراع الديني والحضاري، وقبل قرون أخرى تحولت فيها العلاقة بينهما إلى الاستعمار المباشر، ويقول العروي في هذا الصدد: "توجد مؤشرات كثيرة على أن روسو لم يكن يحمل أي عداء مبدئي للديانة الإسلامية، بل أكبر الظن أنه ربما أدرك أن مفهوم دين الفطرة أقرب إلى عقيدة الإسلام منه إلى اليهودية أو المسيحية. لكن من الواضح أن معلوماته حول الإسلام كانت جد محدودة، أغلبها مأخوذ من مونتسيكو الذي اعتمد بدوره على كتابات الرحالة الأوروبيين الذين تجولوا في الأراضي العثمانية والصفوية".
 
يرى روسو في كتابه هذا أن دين الفطرة هو محاولة جدية وحقيقية للوقاية من الزندقة المؤدية إلى الإباحية والفوضى الأخلاقية على حد تعبيره، في ظل تصاعد موجة من الإلحاد واكبت بدايات عصر الأنوار والتحرر التدريجي من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا، قس جبال سافوا الذي يتكلم روسو بلسانه، يقول بأنه أصبح قسيسا تنفيذا لرغبة أهله، وأيضا للاستفادة من امتيازات الانتساب إلى الكنيسة، دون وجود أدنى رغبة في الإصلاح، لكن هذا أسقطه في فخ الحيرة والشك، والخوف من التنكر لطبيعته الإنسانية، ما دفعه إلى البحث عما يراه الحق، متسلحا بقلبه، وبضميره القادر على التمييز بين الخير والشر ما دامت الرغبة في الوصول إلى الإيمان حقيقية، وهذا ما عبر عنه روسو (أو القس) بقوله: "الضمير غريزة ربانية وصوت علوي لا يخفت، هاد أمين لكائن جاهل محتاج كما أنه نبيه حر، بالضمير يميز الإنسان الخير من الشر ولا يخطئ، أو لم يهب لي الضمير لأحب الخير، العقل لأعرفه والحرية لأختاره؟".
  
 undefined
  
"دين الفطرة" كتاب يعيد تذكير الجميع بأن الإنسان يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قبل أن تتدخل البيئة المحيطة لتغييرها، سواء بالتشدد المتغطرس الذي يعتبر أنه هو المخول الوحيد بتقسيم البشر إلى مؤمنين وكفار، أو الإلحاد الذي يجد تربة خصبة كلما توفرت بعض الشروط المعينة لنشأته.
الجميل في "دين الفطرة" أنه كتاب بسيط في طرحه، رغم عمق الأفكار التي جرت مناقشتها، كما أن القارئ سيجد نفسه مدهوشا عندما يتذكر أن المؤلف فيلسوف تنويري أوروبي مشهور، نظرا للتشابه الواضح في الطرح مع ما قدمه فلاسفة مسلمون كالغزالي وغيره، خاصة فيما يتعلق بالتشكيك في الحواس واعتماد الوجدان والقلب للوصول إلى اليقين بوجود الله.
   
أما فيما يخص الترجمة، فلن تجد أفضل من مفكر كعبد الله العروي، قدم للكتاب بما يسهل على القارئ الاقتراب من فكر روسو وتنوير القرن الثامن عشر الذي سبق الثورة الفرنسية، كما طعم النص بمجموعة من الهوامش لتبسيط مجموعة من الأفكار التي قد يستعصي على القارئ فهمها، ما يجعله كتابا مناسبا لكل شرائح القراء، بمن فيهم غير المتخصصين في الفلسفة، وأيضا من ينفرون منها بسبب ما يعتقدون أنه صعوبة في فهم مناهجها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.