شعار قسم مدونات

الولد الذي أحب القاهرة

blogs القاهرة

حين أقول أني أحببت القاهرة فإني أقصد القاهرة الفاعلة المشتقة من الفعل الثلاثي "قَهَرَ"، وأقصد أني أحببت كذلك أهلها المقهورين المُشْتقيِن اشتقاقًا من الكَدِّ والتعب والزحام المتواصل والسعي الدائب، والركض المستمر وراء لقمة العيش. وفي الزمانات، قال أحد الكتاب ذاتَ لقاء مسجل -وكان من الإسكندرية-: "عندما قَدِمْتُ إلى القاهرة، تبيَّن لي كم أن الإسكندرية تبدو كقرية صغيرة إذا ما قورنت بالقاهرة".. عندما دخلتُها -ضمن المليوني مواطن الذين يَفِدون إليها مطلع كل نهار من الأقاليم المجاورة ويرجعون مع المساء-، أحسستُ أنَّ سماءها أكثرَ ارتفاعًا من سماء المكان الذي قدمت منه؛ حتى لا تصطدم بنواطحها السحابية، بل لا أكاد أبالغ إنْ قلتُ: إن ذهول الإطلالة الأولى نمّا فيّ شعورًا ساذجًا ويقينيًّا في آنٍ، أنَّ أبراج القاهرة الشاهقة هي عَمَدُ السماء.

في أوائل زيارات الدهشة تلك، كنت منشغلا عن الزحام الدائم والطنين الذي لا يفتر، بمراقبة السيارات الفارهة والمهترئة.. البنايات العتيقة المستظلة بناطحات السحاب، المساجد القديمة من عصور الفاطميين والمماليك وغيرهم، الكنائس بأيقوناتها وزخارفها الباهرة للألباب، ولا أكتم سرًا أن كنائس القاهرة ملأت قلبي -أنا المسلم- رغبة وأملا في ولوج كنيسةٍ يومًا ما. في المكان الذي جئت منه: محافظة كفر الشيخ، وكذلك في كل مدن الأقاليم يسمون القاهرة "مصر"، كنت أستعجب، كيف لدولة كاملة قِوامها يربو على الـ٩٥ مليون نسمة، أن تُختزل في مدينة واحدة يتراوح عدد سكانها بين الـ١٠ والـ١٥ مليون! ولكن "إذا عُرف السبب بطل العجب"، وقد عرفتُ. اقتضى الحال أن تكون دراستي الجامعية في القاهرة، مما أتاح لي في أيامي القليلة الأولى أن أتعرف على جزء ضئيل جدًا من كينونة وهوية تلك العاصمة.. ولا أعرف أكذب ممن يقول: لقد عرفت شوارع القاهرة شارعًا شارعًا، ولو كان ستينيًا عاش وشب وشاب في القاهرة..

فالقاهرة حوت ضخم، ومزاج مضطرب، وخليط غريب متناقض متباعد. فقاهرة النهار لا تشبه قاهرة الليل في شيء، بل إن أُناس النهار يكادون يأتون على أناس الليل فلا يبقى منهم أحدًا والعكس يحدث.. وقاهرة المعز لا تشبه قاهرة التجمع، وقاهرة مجمع التحرير في منتصف النهار، لا تشبهها في منتصف الليل. وقاهرة الخامس والعشرين من يناير، لا تشببها أي قاهرةٍ في أي زمان. كانت سنواتي تعد على أصابع اليد الواحدة، حين انغرس في طبيعتي حبُّ التجول والسعي في الأرض بلا هدف، وقد كانت القاهرة خير معين لنماء تلك العادة.

أحببت القاهرة على قسوتها، وكلفت بها على عنفها، وأحببتني فيها، عصفورٌ متجولٌ، منْحشِرٌ فوق الأرضِ في إحدى أتوبيسات هيئة النقل مرة، منغرسٌ تحت الأرض في إحدى عربات المترو مرة أخرى

أحببت القاهرة وشوارعها، وزال عني الانبهار الأول ببنايات وسط البلد، و"فنادق الخمس نجوم" المطوّقة لميدان التحرير، عوضًا عن ذلك شغلني البشر وطبعهم، أحببت الحارات الضيقة والمدن القديمة، والعطَفات المزدحمة. أحببت في القاهرة هذا المزيج العجيب: الباعة الجائلين يرمقون النوافذ الزجاجية للفنادق بشيء من الحسرة والحسد، الشحاذين المُهمَلي الهيئة والملبس يفترشون مداخل المطاعم الفارهة، سكان الطابق الثمانين وهم ينظرون شزرًا إلى سكان العشوائيات الذين يلونهم، وكأنهم حبات لقاح أو ذرات غبار أو "أشياء" مهملة ملقاة يتبارون في تبين تفاصيلها الغامضة، وكنت أجد في عقد تلك المفارقات الصادقة العنيفة لذةً مؤلمةً وألمًا لذيذًا.

تربض كليتي الحنون في "منطقة المنيل"، وحي المنيل -لو تعلمون- كان ولا زال من أرقى مناطق القاهرة، فقد استوطنته قديمًا وحديثًا أسرًا مرموقة، وشخصيات فاعلة في المجتمع المصري، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أسرة الرئيس أنور السادات، والفنان عبد الحليم حافظ، والفنان كمال الشناوي، وحسن حمدي رئيس نادي الأهلي السابق، وغيرهم من الوزراء والمسئولين.

أصبحت حياتي اليومية والمستقبلية إذن، مرتبطة بهذا الحي، فأحسست رغبةً في اكتشافه، وكالعادة لم يخب ظني، فقد تطبع هذا الحي بطباع القاهرة، ورأيت فيه مزاج القاهرة الذي أحب.. محاطٌ باللافتات الإعلانية الضخمة، والتجمعات العمرانية التي "تسد عين الشمس" ومطعم "دجاج كنتاكي"، وعدد لا بأس به من المصالح والمستشفيات الحكومية، وهو مع ذلك يكاد يلاصق حي "السيدة زينب" أحد أشهر الأحياء الشعبية والتاريخية، مما يضفي على هذا المنظر العلوي، مزاجًا غريبًا جميلًا، تستشعر فيه عراقة الماضي، وتستشرف به خطى المستقبل.

استطعت وصديقي -رغم ذلك- أن ننفذ إلى عمق القاهرة، "المنيل القديم" تشبه العشوائيات أو أرقى قليلًا أو أدنى قليلاً، بشرٌ مختلفون، كالذين كتب عنهم نجيب محفوظ، أجل.. كان يسميهم "الحرافيش". أقسم لقد رأيت الحرافيش هناك، كانوا يبيعون الثوم، كان السوق -الذي لا يتسع لثلاثة أشخاص أن يمشوا متراصين- يغص بالثوم، رأيت الكثير من المجذوبين، يسوقون دجاجًا أمام ساحة مسجد قديم، صليت في ذلك المسجد القديم، مسجد "قايتباي"، وقد كان هذا المسجد قديمًا أثريًّا، به نقوشٌ أثرية غائرة يتبينها الناظر بعد جهد ومشقة، انعقد التراب على جدرانها فجعل من الساعة المثبتة أعلى موضوع القبلة شيئًا نشازًا مُنْكَرًا، وأعجب ما كان في هذا المسجد أنه كان محاطًا بشرفات البيوت، ملاصقًا لها، حتى إنه لو تكلم أحد سكان البيت همسًا لسمعه من كان في ميضأة المسجد.

كان هذا أنموذجًا واحدًا على تفرد تلك المدينة الغامضة، ذلك التداخل العجيب بين الثراء والفقر، والرقي والتخلف، بل إن شئت قل: بين الحياة والموت. ولهذا السبب أحببت القاهرة على قسوتها، وكلفت بها على عنفها، وأحببتني فيها، عصفورٌ متجولٌ، منْحشِرٌ فوق الأرضِ في إحدى أتوبيسات هيئة النقل مرة، منغرسٌ تحت الأرض في إحدى عربات المترو مرة أخرى، يرضيه هذا الجمع المتدافع والازدحام العنيف، ويجد فيه خدرًا لذيذًا، ووخزًا موجعًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.