وصلنا في المقال السابق إلى أن أحد التصورات لخروج الأمة من أزمتها يتمثل في اجتماعها على أرض صلبة لمواجهة تلك المحرقة التي تحيط بها من كل حدب وصوب، وأنها لم ولن تستطيع المواجهة على كل الجبهات التي فُتحت عليها في وقت واحد كما هو الحال الآن. وفي إطار البحث عن تلك الراية، وتطلعاً إلى تلك الأرض الصلبة التي يمكن أن تُجمع الامة عليها لتجدد انطلاقتها، وتكسر قيودها، فإنني أرى أن التوصل إلى تلك الراية يعرف بعدة وسائل منها:
يعمد المنتصر غالبا إلى نصب رايته على أنقاض راية المهزوم، ويشيد فسطاطه على أنقاض فسطاطه. والجميع يرى الآن بكل وضوح أن راية الاستبداد العالمي قد تم غرسها على أطلال راية المسلمين، فقد توحدت كل أيادي الغدر والخيانة على زرع كيان لقيط في قلب الأمة الإسلامية، وعلى أنقاض رايتها المسلوبة سموه (إسرائيل).
والعجيب أنك ترى أن أعداء الأمة قد اختلفوا في الكثير من أمورهم ولكنهم اتفقوا على دعم ذاك الكيان ونصرته، فهو لواؤهم الذي نصبوه، ورايتهم التي غرسوها وهو موطن الولاء، والحج إليه مقصد الخائنين، ودعمه سراً وجهراً من وسائل تثبيت أركان الطغاة والمستبدين، وإن نسيت فلن أنسى كم يتودد المرشحون في انتخابات الرئاسة الأمريكية للكيان، وكم يقدمون من خطط لدعمه، أو قرارات لإحكام قبضته على القدس، أو وعود بالقضاء على المقاومة، وكم يسعى خونة العرب لخدمته طمعا في تثبيت أركان أنظمتهم، واستمرار طغيانهم واستبدادهم! ومن هنا فلندرك أن راية الأمة التي يجب رفعها، والبيعة لنصرتها، والاصطفاف لتحريرها ليست إلا القدس الشريف.
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ببقاء طائفة منها منصورة ترفع الراية وتقوم على الحق، وتقهر العدو، محصورة على من كانوا في بيت المقدس |
إن دعم الغرب لكثير من الأنظمة العربية والإسلامية يرتبط ارتباطا كبيرا بمدى دعم تلك الأنظمة للكيان، وتطبيع العلاقة معه، وشن الحروب على كل من يقاوم طغيانه، أو يواجه احتلاله، وأن بقاء الأنظمة المستبدة في المنطقة مرهون بمدى دعمهم للكيان الصهيوني، فهم أشبه بكلاب الحراسة، وموت ألف رجل من أهلهم أيسر عليهم وأقل خطرا من موت كلب واحد لسيدهم! لأن هذه الأنظمة لم تأت للحكم عن طريق الاختيار الحر لشعوبها، وانما أتت وفق ترتيبات الغرب لتحقيق أهدافه، وحراسة رايته ومصالحه.
تسلم النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة التمكين والريادة (الإسراء والمعراج) راية الأمة، حيث صلى بالأنبياء إماما في المسجد الأقصى، فلم تكن الصلاة في مكة أو المدينة رغم عظيم مقامهما ومكانهما، وإنما كانت تلك الصلاة في القدس بمثابة حفل تسليم للراية، حضرها الأنبياء السابقون جميعا ليشهدوا ويشاركوا في تسليمها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُتوج بالمعراج منها إلى سدرة المنتهى.
إن بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ببقاء طائفة منها منصورة ترفع الراية وتقوم على الحق، وتقهر العدو، محصورة على من كانوا في بيت المقدس، ومن كانوا في أكنافه ممن يجاهدون من أجله وإن لم يكونوا من أهله. كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".
فمن لم يكن من أهل بيت المقدس فليكن من أكناف بيت المقدس، وإن كان في أقصى البلاد أو أدناها، فالعبرة بتحققه بتلك الصفات وليس بالسكن والحياة، العبرة بالاستمرار على القيام بالحق، ومقاومة العدو ودحره، دون الالتفات لقوته أو الانصياع لإرادته.
إن مشروع المقاومة في القدس وفلسطين يعتبر من أصلب النقاط التي يمكن أن تجتمع الأمة عليها الآن، ومن أنجح التجارب التي دفعت الأمة إلى الثقة بمنهجها، وعظيم المحبة والولاء لرجالاتها وقادتها، لذا فإن مشروع المقاومة هو الوحيد المؤهل للقيادة في مرحلة السيولة الجارفة التي تعيشها الأمة في أزمتها الحاضرة، وهو بالفعل يمثل أملاً من أمالها.
إن الانشقاق المجتمعي الأليم الذي أصيبت الأمة به في الأونة الأخيرة على نحو لم يسبق له مثيل، لا أمل في إصلاحه وإعادة لحمته إلا على تلك الراية، فهي القضية الوحيدة التي أجمع الناس عليها، لما لها من مشروعية دينية، ومشروعية حقوقية وتاريخية وعاطفية، لذا فهي الراية الوحيدة التي تجمع الفرقاء ، والراية الوحيدة التي لا يقف ضدها إلا مفارق لدينه، فهي راية التمايز والفرز الحقيقي .
أخيرا أستطيع أن أقول إن الراية ليست سوريا وحدها مع شرفها وبركتها، أو مصر مع قدمها، أو العراق مع تاريخها، أو مكة مع قداستها، أو المدينة مع سمو مقامها، ولكن الراية تتمثل في القدس المغدور والأقصى الأسير. وإن اجتماع قوى الأمة لتحرير الراية ليس في الحقيقة إلا سعيًا جاداً لتحرير سائر الأوطان، وإن توجيه كل القوى المتاحة لتحرير راية الأمة ليس انصرافاً عن تحرير بقية الأقطار، أو تخلياً عن القضايا الخاصة، أو هروباً من الاستحقاقات المحلية، وإنما ضبطاً للبوصلة، ووقفاً للاستنزاف، ومحافظةً على ما تبقى من سهام.
ولندرك على وجه القطع أن أعداء الأمة عمدوا إلى فتح بؤر استنزاف في المنطقة عن طريق وكلائهم، استنزفت الكثير من ثروتها بقتل مئات الآلاف من شبابها الطاهر، وتدمير الكثير من ثرواتها ومواردها، وزرع اليأس في نفوس أجيالها، وأزعم أن ما أُنفق من أموال وما أُريق من دماء في السنوات الخمس الماضية كان كفيلاً بتحرير راية الأمة ومقدساتها وسائر أقطارها.
إذا كان الكثير مما يحدث لأمتنا يكمن سره في منع الوصول إلى تلك الراية، ألا يدفعنا ذلك الى التفكير في أن نجعل استخلاص تلك الراية هو القضية الكبرى التي منها تُحرر البلاد من سطوة الطغاة ووكلاء البغاة وكلاب الحراسة؟ وإذا اتفقنا على هذا الطرح فما السبيل لذلك وما كيفيته؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.