شعار قسم مدونات

تحت الشجرة

مدونات - امرأة حامل تحت الشجرة
الشمس تغيب والغيوم تشدُّ أشرعتها مع الرّيح تمضي.. وأنا هنا، تحت شجرة تهتز أوراقها الخضراء كما تهتزُّ الروح في داخلي فتهدأ تارة وتخفق أخرى.. إنها الشجرة الوحيدة على رصيف متعجرف طويل جدا كالزمن الذي أنا فيه أرى البداية وأجهل النهاية. أضع يدي على الجذع أرتاح قليلا بينما تتواتر الطّلقات في أحشائي ذهابا وإيابا فأنا في حالة مخاض الآن ويطوف بي خيال العذراء إذ تهزّ جذع النخلة "ياليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيا منسيّا" يرددها لسان مريم فيرتدّ صداها في داخلي الوقت غارق في التاريخ لكن ثمّة وحدة حال لا تعرف الزمن فكل النساء في المخاض مريمات يتمنّين الموت!

 

ما الذي جاء بي إلى تلك الشجرة وهذا الممشى الممتد إنها رغبة عارمة بالانطلاق في الهواء أن تكون الأرض فراشي والسماء لحافي والطبيعة منزلا يواسي القلب علَّ الساعة تمضي في أحضانها بسرعة. لكن الزمن يتوقف على طابور الأفق الممتد وكأنه يريد أن يلقّنني درسا لا أنساه في معنى الوجود. كل شيء أعرفه فهذه ولادتي الثانية وهذا الوقت المستقطع من عمري قَدَرٌ أحيا فيه بمعاني الإنسان حين ينتقل من طور الضّيق إلى السِّعة ومن الهمّ إلى الفرج من اليأس إلى الأمل.. من رهبة الحرب إلى طمأنينة السلام.. من لوعة المخاص إلى روعة الولادة رحلة محفوفة برموز الحياة ..ما أقرب اليوم بالأمس وما أقصره درب الأيام مرت سنتين على -تجربة مخاض- لم أنس أي جزء من تفاصيله حتى لون الخطوط الزرقاء المنقطة التي كانت مرسومة على سترة الولادة!

 

تلك ابنتي إذ تغادرني العظم يلين والوقت العصيّ يٓرِقّ ثم يستسلم الدمع ينسكب وأحسّ أن دقائق فقط تفصلني عن اللقاء بها ألمُّ أنفاسي بسرعة وأشدُّ على ذراع الليل الغافي لأوقف ارتجاج الروح لحظة

وهذا طفلي الأول يطوف حولي تحت الشجرة يعانقني ويبتسم ويتابع الركض فيحرّك في النفس أشجانها ما أرق ّٓ براءة الأطفال وما أعذَب انعكاسها في النَّفس إذ تلتقي فيك الحياة بمعاني المرح منها ويتكسَّر ما بك من جدّيتها الزائفة التي تُنسينا أحيانا أن نبستم لذواتنا حين ننظر في المرأة عِوَضا عن الابتسام حتى للغير!

 

جرّب إذاً أن تعانق طفلا أو تلاعبه حين تضيق بك الدروب لتتحقق من سعة الحياة ولامحدودية الروح تتواتر علي الطلقات تهُّزني بوتيرة متصاعدة وهنا طلقة كفيلة بتمزيقي وجعلي أنسى كل المعاني تسمّٓرت على الأرض واقفة كهذه الشجرة وأخذت شهقة المستعدّ لمعانقة السَّماء عناقا أبديا، طلقة فصلتني عن نفسي ثم عُدتُ إليّ، علي أن أذهب الان إلى قدري قبل أن أغيب مرة أخرى في هذا المخاض حيث يتناوب الحضور والغياب.. الحياة والموت.. الفراق واللقاء ثم على أحدهما أن يكون الأقوى. ودّعت أمي وطفلي وزوجي ودخلت الى موعدي المُنتظٓر من تسعة أشهر فقد حان وقت الجلوس على كرسي الولادة للمرة الثانية وانا في خضّم لهفتي وحماسي وألمي تذكرت أنه ربما عليَّ أن أهدأ وأن أجلس ببرود ففي لقاءي الأول جلست أربع ساعات متواصلة هنا حكيت فيها ألف حكاية!
  
لذلك هيّأت نفسي لساعة طلق أخرى وأسدلتٌ الجفون كي أعيش اللحظة.. لابدّ من تأمّل لابُدَّ من تقدير للمعجزة التي أحياها.. لا بُدَّ من صلاة في محرابي هذا فما أقربني من الله وما أشدَّ حاجتي إليه. وبينما أنا في لهفة الخشوع تنادي الطبيبة على الممرضات أن اجتمعن بسرعة وبشكل مفاجئ أشعر أن الساعة تنطوي وأن الأنثى تعمل عملها في الطبيعة حين تعطف على الغصن فتلينه.. وتمنح القلب لمسة رحمة فترققه حدّٓ الحنان..

   undefined

 

تلك ابنتي إذ تغادرني العظم يلين والوقت العصيّ يٓرِقّ ثم يستسلم الدمع ينسكب وأحسّ أن دقائق فقط تفصلني عن اللقاء بها ألمُّ أنفاسي بسرعة وأشدُّ على ذراع الليل الغافي لأوقف ارتجاج الروح لحظة تخطف من عمري كأنها الدهر كلّه يخرج الجسد من الجسد والروح من الروح والنفس من النفس والقلب من القلب.. لحظة الولادة.. كل شيء يتمزّق حتى الصوت.. يقصّ المدى ثم يهدأ فجأة كل شيء ويسكن تقديسا لوهلة الانتقال من حياة الى حياة.. من عالم الرحم إلى عالم الدنيا تنطلق صرخة تهزّ المكان صرخة جديدة تخرج إلى عالمنا إليَّ إلى صدري تأتي طفلتي وردة من بستان الرحمة أطوقها بذراعي وأضمها الي الحمد لله الذي رحمته وسعت كل شيء.

لحظة تاريخية لا يُضاهيها جمالا إلا سابقتُها فكم كنت أقتات على ذكرى العينين اللتين منحتاني الأمومة الأولى وها أنا ذا أعود للسُقيا من جديد من عينين تذوب في محيطهما بحار الروح وتأوي إليها طيور سنونو بيضاء.. ومرة أخرى أخرج إلى العالم بقلب واحد بعد تجربة ولادة لا تُنسى، ولا أدري أّينا التي ولدت ابنتي أم أنا.. أم كلّنا فحين استقبلت طفلي الأول عانقته كأنما ولد اليوم وعانقتني أمي كأنما ولدت اليوم وكأن الحياة على أعتاب كل ولادة تبدأ فينا من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.