شعار قسم مدونات

"اللي ييجي من الله يا محلاه"

BLOGS الحريف

اعتدت في صغري على قراءة سلسلة قصصية بعنوان "كوكتيل" للكاتب المصري نبيل فاروق والتي تضمنت كل نسخة منها قصّة قصيرة في نهايتها كانت تحمل في طياتها عبرة ما. وفي إحدى المرات كانت القصة تدور حول بائع أقمشة عراقي في أحد أسواق مدينة البصرة تفاجأ ذات يوم بمرور الموت بين الحشود قبل أن يقف ويرمقه بنظرة غريبة. ارتعب البائع وقرر الفرار إلى بغداد للاحتماء من خطر الموت.

في بغداد كان الموت بانتظار الرجل، وعندما التقيا ارتعدت مفاصله وقرر مخاطبة الموت "ماذا تريد مني، تركتك في البصرة فماذا تفعل هنا الآن؟" رد الموت "أنا هنا لأن ميعاد رحيلك جاء". صدم البائع رغم إحساسه المسبق بما قد يحدث، لكن ذلك لم يمنعه من توجيه سؤال أخير "لماذا لم تقبض روحي في البصرة واكتفيت بالنظر نحوي تلك النظرة المرعبة؟" رد الموت "كُنت مستغرباً من رؤيتك هناك، إذ كان من المفترض أن أقبض روحك في بغداد اليوم".

ليست قصّة فريدة من نوعها فإدجار آلان بو كان أول من كتب عن هذه الفكرة في "قناع الموت الأحمر" والتي تأثرت بها العديد من الأعمال الأدبية لاحقاً، لكن وبالطبع، لم تخلوا قصّة فاروق من لمسة شخصية حين أضاف في نهايتها آية "أينما تكونُوا يُدرككُّم الموتُ ولو كنتم في بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ" من سورة النساء.

لم أستطع وضع يدي على السبب الذي يجعلني أتذكر هذه القصّة بعد كل هذا الوقت، ربما لأنها راقت لي رغم ضبابية الحكمة من وراءها؛ هل كل ما أراد فاروق قوله أنني سأموت مهما حاولت؟ في الحقيقة كان هذا مخيفاً جداً بالنسبة لطفل بدأ مؤخراً بمحاولة فهم العالم.

اللحظة التي تشعر فيها بالخوف من القفز هي بالتحديد اللحظة الأنسب للقفز، وإن لم تفعل ذلك ستعيش ما تبقى من حياتك ثابت في مكانك لا تتحرك

في إحدى التجارب التي قرأت عنها مؤخراً كان هناك ثلاث مجموعات من طلاب الفن في أحد المعاهد، طُلب من المجموعة الأولى أن يرسم كل طالب فيها لوحتان وبعد أنتهاءهم أُخبروا أن عليهم اختيار واحدة من اللوحتين للتخلي عنها، وبالتالي الاحتفاظ باللوحة الثانية والتي بإمكان كل طالب أن يحملها معه إلى منزله، ولكن اللوحة الأولى لن يستطيع أحد رؤيتها حيث سيتم شحنها لمكان بعيد جداً خلال ربع ساعة من اتخاذ القرار.

تبدو نعمة حقيقية، أن يمنحك أحدهم الخيار المطلق لتحديد اللوحة التي تود امضاء بقية حياتك معها، على الأقل لديك فرصة لاختيار العمل الأقرب إلى قلبك، وهذا بالضبط ما اعتقد جميع الطلاب أنهم يفعلونه "الأقرب إلى القلب".

بعد أسبوع فقط من عملية الاختيار تم جمع الطلاب ليجيبوا عن سؤال واحد "هل أنتم راضون عن اختياركم اللوحة التي بحوزتكم؟" كانت المفاجأة أنهم جميعاً شعروا بالندم و باتوا يعتقدون بأنهم اختاروا اللوحة الخطأ وأن قلوبهم لا تزال معلقة باللوحة الأخرى ويتمنى كثير منهم العودة في الزمن من أجل تغيير رأيهم حيال اللوحة التي يفضلونها وبالتالي اختيار اللوحة التي حُرموا منها.

أمّا في المجموعتان الأخريان كانت الإجراءات مختلفة بعض الشيء. مُنحت المجموعة الثانية مجالاً للتراجع خلال أسبوع كامل، أي أنهم يختارون لوحاتهم المفضلة مع إمكانية استبدالها باللوحة الثانية بعد أسبوع إن غيّر أحدهم رأيه. وهو ما حدث فعلاً حين غيّر جميع الطلاب آراءهم وعادوا لحمل اللوحة التي تركوها أوّل الأمر والذهاب بها إلى المنزل، لكن هل اختلفت النتيجة؟ بعد أسبوع ثان اتضح أن الغالبية العظمى من الطلاب ندموا على قرارهم وتمنوا لو أنهم احتفظوا باللوحة الأولى ولم يعودوا لاستبدالها.

أمّا المجموعة الثالثة والأخيرة لم يُمنح طلابها المجال للاختيار أصلاً حين قررت الإدارة سلبهم واحدة من اللوحات مع امكانية ان يحصلوا على اللوحة الثانية، أي أنهم أُجبروا على اتخاذ مسار معيّن مع لوحة معيّنة لم يكن لهم يد في اختيارها. والمفاجأة أن جميع طلاب المجموعة الثالثة كانوا سعيدين حقاً باللوحة التي بحوزتهم.

ما الخلاصة من ذلك كله؟ أن الإنسان كائن معقد يتغذى على انعدام الثقة في ذاته؟ أنه غير قادر على تحديد الأفضل لنفسه؟ أن ما يفعله حقاً لا يتعدى كونه "وهم الاختيار" بين خيارات مرسومة بدقة أصلاً يتبعها كخروف في مزرعة يصدّق بأنه حر؟

بالطبع لا تنوي هذه التدوينة طرح أسئلة فلسفية خصوصاً وأنني لن أستطيع الإجابة على ربعها ولو أنني أحرص على أن أبدو حرّيفاً دائما (لا تخبروا أحدا بهذا الاعتراف). لكن كل ما آمل بلمسه هو كيفية فهم الكيان الغامض المسمى "سعادة" خصوصاً حين نعتقد أنها موجودة في مكان معين لنكتشف مصدومين أنها تنمو في مكان آخر تماماً.

لربما لم أستطع أن أصنع لنفسي خطّاً ناجحاً كما أردت أو أن أرسم لوحاتي وأختار الاحتفاظ بتلك التي أريدها فعلاً. لربما أنا ذاتي كنت الخيار السيء في حياة الآخرين 
لربما لم أستطع أن أصنع لنفسي خطّاً ناجحاً كما أردت أو أن أرسم لوحاتي وأختار الاحتفاظ بتلك التي أريدها فعلاً. لربما أنا ذاتي كنت الخيار السيء في حياة الآخرين

قد يبدو تعدد الخيارات أحياناً نقمة حقيقية لعدد من الأسباب تتعلق بوجود احتمالية أن الخيار المتروك كان هو الأنسب، علاوة على صعوبة ممارسة فعل الاختيار من الأساس إذ يحتاج لجرأة كبيرة خصوصاً عندما يتعلّق بقرارات مصيرية مثل الزواج أو الهجرة أو ترك الوظيفة الآمنة أو الخروج من علاقة عاطفية أو حتى صداقة لم تعد كما كانت على الاطلاق.

يفضّل أحدنا البقاء في الزاوية المريحة التي تعفيه من اختيار أو تقرير أي طريق عليه أن يسلك. في اقتباس على لسان إحدى الشخصيات في فيلم A Most Violent Year يُقال "إن اللحظة التي تشعر فيها بالخوف من القفز هي بالتحديد اللحظة الأنسب للقفز، وإن لم تفعل ذلك ستعيش ما تبقى من حياتك ثابت في مكانك لا تتحرك".

لكن مهلاً، هذه شخصية سينمائية على أيّ حال، وغالباً لو أخرجناه من حدود السيناريو ودفعنا به داخل معترك الحياة (يا له من وصف مبتذل) فإنه على الأغلب يبقى ثابتاً مكانه دون أي رغبة في التحرك. "القهوة.. عالم قايم بحاله.. فيه اللي قاعد جنب اللي هايم.. فيه تلاهي وفيه عبر.. وفيه تلاقي كلّ البشر".

لربما لم أستطع أن أصنع لنفسي خطّاً ناجحاً كما أردت أو أن أرسم لوحاتي وأختار الاحتفاظ بتلك التي أريدها فعلاً. لربما أنا ذاتي كنت الخيار السيء في حياة الآخرين ولربما لم أستطع النجاح فيما كان بمقدوري التغلب عليه وربما انني مهزوم وربما سأُهزم مستقبلاً وربما كنّا جميعاً جيلاً من المهزومين، منا من استوعب هزيمته ومنا من لم يعترف بها بعد.. ربما.

ولكني وفي خضم ما يحدث لي وللآخرين كنت على يقين تام حتى في لحظات التعاسة الكبرى والضياع الكامل أن نهاية ما لا بد وأن تجيء. وأن ما حدث وما سيحدث ما هو إلا خطة كبرى نندرج جميعاً فيها فرادى وجماعات لهدف يتبين لاحقاً. لم أعد أبحث عن السعادة، لأن البحث عنها هو التعاسة ذاتها. عدم انتظار الشيء أو الركض وراءه يبقى سرّاً صعب الفهم ولكن ما إن يُدرك فلا يهم شيء آخر بعده، كل ما كان عليّ فهمه أنّ "اللي ييجي من الله يا محلاه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.