شعار قسم مدونات

أيدولوجيا التدافع

مدونات - لابتوب وسائل التواصل

وكأن السوط يُطاردهم، يهرع بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي لا جميعهم إلى الزّجِ بأنفسهم في أمورٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وبشكل فج يُباشِر هؤلاء في عولمة سِلعتهم كما سوف يُشرح لاحقاً. يعتقدون أن بمجرد نجاحهم في جلب مشاهدات واشتراكات عبر يوتيوب، سوف يخوّلهم ذلك لكسب نجاحات على جبهات إضافية على صعيد الخوض في الكتابات الأدبية أو في الغناء أو في أي اختصاص غير مُدرج بالعادة ضمن محتوى قنواتهم الرئيس. الحقيقة أن مجرد نجاحهم في مزاولة نشاطاتهم المُفلسة يعتبر فشل كبير للمحتوى العربي على منصات وسائل الاجتماع، وحتى لا نقع في غياهب التعميم وشرك الإقصاء، فإننا نقول بأن نجاحهم مشكوكٌ في صحّته، فما بالك بالحديث عن ترويج هذا الفشل أو هذا التشكيك على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال؟

 

هناك أمران رئيسان هما أكثر ما يشغلاني في أيدولوجيا التدافع هذه، بدايةً "أيدولوجيا التدافع" هذه ليس لها مصدر حقيق في معاجم علم الاجتماع ولا أدّعي في ذكره أي رصد شامل إنما أدّعي بأن هذا الوصف ليس أكثر من كونه نص يأخذ سياقه في تكوينِ ضالة فكرية قابلة للنقد حالها حال مفاهيم أخرى. والمقصود الاصطلاحي هو اعتلاء فئة لمناصب، يحصلون بها على خدمات إعلامية وكثرة مطبلين على غير وجه استحقاق، يتصف أفراد هذه الفئة بالغوغائية وغياب نجائِب الأمور والحِكمة والمعرفة الحقّة عنهم، حيث كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم عنهم أحد.

 

إننا نرزحُ تحت خطر تدنيس الأدب والثقافة بتبديل الفن الرائع إلى خرافات ومضلات الهوى الكتابية، ونجاح السوق في أن يشري هذه الكتب لهو أكبر فشل

أما عن ما يشغلني فأولاً هو كمية الوقت والصحة والشباب الضائعة والتي لو تم توجيهها بشكل صائب، فسوف تزيد من روائع إنتاجنا ومحصولنا الفكري والثقافي، يتحسر الحسن البصري على قومه حينما قال: أدركتُ أقواماً كان أحدهم أشح على عمرِه منه على درهمه وديناره. ونحن اليوم نبدو أبخل ما نكون في أن نتحسر على الغزو الثقافي الذي ينبري بشجاعة وبمباركة رهيبة من س وص لخدمة الجهل والتعاسة بل ويتم تصديرها بأبهظ الأثمان وبسخاء رهيب.

 

ثاني الأمور التي تشغل بالي هي قيمة " الرجل النهضوي" -لفظ رجل للذكر والأنثى- الذي لا بُد له أن يتأثر بالانجراف الأدبي لدى المجتمع، أصبح الرجل النهضوي غالباً نقطة ميتَةً في مجتمع ميت تشرّب التقليد والترفيه فقط، علّك تستغرب أن من بؤرة هذه المنطقة سيخرج النصر، النصر الأخير، من نفس البؤرة التي تنادي الآن بسياسة الاستكثار، استكثار المُلهيات وتجنيد أكبر جيش ممكن، للتبشير بالمسيح الدجال كخدم وجنود، إن هذه الشريحة -شريحة التدافع- تبلغ ذروتها في المجتمع لا لقوتها إنما لهشاشة الأفراد الرائعين وانحِسار قيمتهم وخوفهم من وزارات الرقابة. قد تزدهر الأوطان على يد أهل الثقافة البلاستيكية فتنةً وإمهالاً، يتغيّر على يدها ما تبقى من ثوابت دينية وقومية وطنية ويتم إقحام قوانين جديدة ينتكس بها ما تبقى من فطرة وخجل، لكنها لن تلبث إلا ويُشج رأسها عاجلاً كان أم آجلاً. فالعزلة العزلة يا رفاق.

  undefined

 

رسالتي إلى المتسبّب: ألا يكتفي هذا الجيل المُراهق المغرور في قتل إناء الفائدة والتغرير في أبناء وبنات مجتمعاتنا الذين هم أقرب ما يكونون إلى معركة التحرير، أي تحالف شرير هذا الذي يُكتب؟ إنها الحملة الكتابية الصمّاء يا رفاق. إنها "كتب السر" الجديدة على أيدي هؤلاء الذين يُحجبون النظر عن الكتب والأعمال المفيدة في سبيل نشر المهزلة، كم من أرقام "الردماك" التي تُلصق على كُتب جديدة كل يوم؟ ألا يوجد رجل رشيد يدقق السيء منها، والتي تُزرع في بيادرنا بكل نعومة وشجاعة؟، ألا تتوقف المطبعات ودور النشر عن دعمِ هذه الأعمال غير الضرورية غير الثقيلة عديمة القيمة؟، إن الثقل والضرورة والقيمة ثلاثة مفاهيم متلازمة جوهرياً: لا شأن إلا لما هو ضروري، ولا قيمة إلا لما له وزن.

 

إن مثل هكذا توجه لقراءة مثل هكذا كتب لهي تغرير حقيقي لا يقل خطورة عن الذي يُغرِّر باسم الدين في حروب يذهب فيها الأبرياء، ولا تقل خطورة عن الذين يتكلمون باسم الفضيلة والجلال، وإن لهذه الكتب الفارغة لنفحات مسمومة لا تصيبنا نحن أهل الأدب فحسب، بل تتجه بسرعة البرق إلى أفئدة أبنائي وأبنائكم جميعاً. إن مثل هذه الكتب لهي كما مراجعات لجواسيس جدعون وبروتوكولات بني صهيون وكتب التبشير الصفوي، إنها كما إرهاصات متكررة لمسائل التغريب والإذعان للفكر الذي ليس هو بفكرنا ولا بمحمديتنا.

 

الجزء المرعب الذي يخيفني هو فكرة تخليد عمل غير نافع، وهي بالنهاية -هكذا تمضي الفلسفة- طريقة مدروسة من جهات معنيّة في سبيل إلهاء عوام الناس كي لا يكون لديهم وقت فراغ، إلهاؤُهم بكتابة أي شيء دون النظر لضرورة ما يُكتب، بل حين يكون الناس منشغلين بسفاسف الأمور إلى حد يحُدّهم عن التفكير البتول فهذا هو أدعى مراحل الأمان وأقلها خطورة على الأنظمة. إننا نرزحُ تحت خطر تدنيس الأدب والثقافة بتبديل الفن الرائع إلى خرافات ومضلات الهوى الكتابية، ونجاح السوق في أن يشري هذه الكتب لهو أكبر فشل، وإقبال أبناء وبنات جلدتنا المتكرر على نوعيتها لهو أكبر خيانة. فإن صح العزم؟ اتضح السبيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.