شعار قسم مدونات

تجربة الموت.. خواطر الفقد والعزاء

blogs - جبانة 1

في أوقات الشدة نحتاج الآخرين أكثر مما نظن، نشعر برغبة عارمة في الانطواء والانعزال، في البعد والاختفاء، في الوحدة والاختلاء.. أو هكذا كانت رغبتي في الفترة الأخيرة. في البداية، لم أرغب بوجود أحد من حولي، لم أظن أني بحاجة إلى أحد بجانبي في هذا الوقت، كل ما أردته هو قضاء بعض الوقت بمفردي. وددت أن أمارس حقي في الحزن، وأن أعيش لحظاته كاملة.. أبكي، وأخرج كل ما بداخلي. البكاء ليس ضعفا أو عيبا، بل إنه نعمة من الله منحنا إياها؛ حتى تشفي ما في صدورنا من أوجاع. كان يضيق صدري بكثير من الآلام والتراكمات عبر السنوات والشهور الماضية، التي لم أعط نفسي الوقت والحق في التفريغ عنها والشفاء منها.

نعم، عندما نخرج ما بداخلنا يغسلنا ذلك من الهموم والأوجاع.. هذا ما تعلمته بالطريقة الصعبة. لم استحب فكرة أن يحاول أحدهم إخراجي من معزلي، وتشتيت فكري بأي طريقة كانت. أردت أن أعيش لحظات حزني بكامل قسوتها وألمها، بكامل بؤسها وشقائها وعنف أوجاعها. ليس حبا في الحزن ولا تلذذا بالشقاء، لكن لإيمان بداخلي أن المرء منا يلزمه أن يحيى كامل أوقات حزنه كما يعيش أفراحه.

يلزمنا أن نتقبل الألم ونعترف به كما نستقبل الفرح ونفتح له قلوبنا على مصراعيها، وبدلا من أن نهرب من المواجهة ونشتت أنفسنا، ونغيب عقولنا، ونسكر أرواحنا تيها في محاولات عابثة؛ لمراوغة الهموم والأحزان والتهرب منها، علينا التحلي بالشجاعة الكافية لمواجهتها وعقد جلسة للتصالح معها. حينها يمكننا التوصل إلى تسوية معها ترضي جميع الأطراف، ويخرج الجميع منها فائزين؛ فالهرب لن يفعل شيئا سوى المماطلة، ولن يزيد نفوسنا المرهقة إلا إنهاكا بالمزيد من التراكمات والأعباء النفسية. وعما سنفوز به، فإلى جانب أجر الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله، سنفوز بالقوة.. أجل القوة! فتلك الشدائد والصعاب، التي لن تقتلنا ستجعلنا أقوى. الندوب التي تخلفها في أرواحنا ستشكل حصنا مناعيا، يكون عونا لنا على مقاومة المصاعب القادمة. إنها سنة الحياة على أية حال.. شئنا أم أبينا.

كنت أرغب كثيرا في الجلوس وحدي، أتذكر والدي ولحظاتنا الأخيرة معا. أستعيد كل لحظاتنا السعيدة والمريرة، أبقي عليه حيا في قلبي، وأتعهده بالدعاء بالرحمة والمغفرة

يوم وفاة والدي بكيت كما لم أبكِ من قبل، قضيت اليوم كامله أبكي في صمت حتى ظننت أن روحي كادت تفارقني. تملكني وجع شديد بدأته غصة في القلب تعصره عصرا، وتطلق الألم كطلقات الرصاص في جميع أجزاء جسمي. كان الوجع مريرا وكانت الصدمة شديدة، وكانت روحي تختنق وعيناني تمطران الدموع كالسيل ينهمر. قلبي يئن ويسيل حزنا وأسى وقهرا، وعقلي غير قادر على الاستيعاب. الوقت يمر ولا أكاد أشعر بأي شيء يدور من حولي، كنت ملقاة كجثة هامدة واجمة، تمر علي النساء اللاتي أتين لتقديم واجب العزاء. يُمسكن بيدي ويُربتن عليها "البقاء لله.. شدي حيلك". يسلمون ويمضون وتأتي أخريات، يكررن الأمر في رتابة مستفزة، لماذا علي أن أمضي اليوم هكذا؟

تُشفق عليا أخريات يأخذنني في أحضانهن، وأرتمي أنا من حضن إلى آخر ولا أعلم من تحضنني أو ماذا تقول، قد طار عني عقلي ولا أعي شيئا مما يدور حولي. كل ما أذكره "اجمدي كدة عشان ماما.. خليكي قوية واجمدوا وقوا بعض وشدوا من أزر بعض.. متعيطيش.. متزعليش.. ادعيله واقريله قرآن وتصدقي عنه و..و..و..". في البداية، ضاقتني كلماتهم كثيرا، كيف لا يسمح لي بالحزن في يوم كهذا؟، كيف يمنعوني من حقي في الحزن؟ إنه من حق كل إنسان منا أن يحزن، ويأخذ كامل وقته في هذا، ويعيش ذلك الوقت بكامل ألمه وقسوته. لماذا؟ لأن هذه الأوقات هي ما تصنعنا، وتجعلنا ما نحن عليه. لم أكن أود أن أقضي يوم كهذا في استقبال سيدات، لا أعرفهن ولست في مزاج يسمح لي بالتعرف عليهن. لا أرى طائلا من الجلوس لاستقبال عشرات الأشخاص طوال اليوم؛ حتى نجلس سويا في صمت مدقع لا ينفع الفقيد ولا ينفع أهله في شيء.

بالطبع أحترم مجيء الجميع من الأقارب والمعارف، الذين لم يتأخروا عنا في شيء، ووقفوا بجانبنا طوال أيام العزاء، ولن أنسى لهم ذلك. فقط شعرت بالضيق من ضرورة التزامي بالجلوس على مدى عدة أيام متواصلة، أستقبل العزاء مع والدتي طوال اليوم في جلسات يسودها الصمت كأن على رؤوسنا الطير، ما النفع من ذلك؟ لا أعلم من ابتدع هذه الطقوس الغريبة، ولماذا توارثناها ونواصل الاستمرار عليها؟! في بعض الأحيان كنت أتركهم وأتعلل بالذهاب إلى الصلاة؛ حتى أجلس وحدي وأظل أدعو لأبي، وأقرأ له بعض آيات القرآن. لكن تأتي سيدات أخريات، يلزم حضوري لاستقبال واجب العزاء منهن؛ فأضطر إلى العودة. "نحن لا نحتاج النسيان إلا حين تصبح ملامح الخيبة على وجوهنا حادة جدا.. معجب الشمري".

 

كنت أرغب كثيرا في الجلوس وحدي، أتذكر والدي ولحظاتنا الأخيرة معا. أستعيد كل لحظاتنا السعيدة والمريرة، أبقي عليه حيا في قلبي، وأتعهده بالدعاء بالرحمة والمغفرة. لا أريد من أحد أن يقطع سيل الذكريات ذاك، أو أن يحاول إخراجي من عزلتي، أود أن أعيشها بكامل تفاصيلها وأخرج بالعبر منها. لكني مع ذلك، لا أنكر الدور الجميل الذي لعبه الأهل والأصدقاء والزملاء في تجاوز المحنة؛ فكانت كلما ضاقت نفسي من الوجع، وأطبقت الذكريات المريرة ووجع الفقد والفراق على رقبتي كالحبل تشنقني، يبعث الله لي من يعتق رقبتي ويداوي أوجاعي، ويخفف آلامي، ويسكن ما في القلب من صرخات مكتومة.

عزائي الأكبر بمغفرة الله وواسع رحمته، ويقيني أنه سيسكن والدي فسيح جناته ويقبله شهيدا عنده، ويحشره مع زمرة الأنبياء والصديقين
عزائي الأكبر بمغفرة الله وواسع رحمته، ويقيني أنه سيسكن والدي فسيح جناته ويقبله شهيدا عنده، ويحشره مع زمرة الأنبياء والصديقين
 

فكأن الله يرسل الصبر تترا يوما بعد يوم على قلوب الثكالى والمفجوعين، وكأن قلوب أولئك الطيبون الأنقياء بلسما يضعه الخالق على قلوبنا؛ حتى يطيب ما بها من جروح ويبرد ما بها من نيران الشوق، ولهيب الحسرة وأشواك الندم. ممتنة جدا لك يد مدت العون لي بالسؤال والدعاء، ولكل حضن احتوى ضعفي، وغمرني بدفء عاطفته الصادقة. وعندما أفكر في الطريقة العجيبة التي انتشلتني من غياهب الحزن، لا أستطيع تفسيرها إلا بالعناية الإلهية التي ربطت على قلبي، والسكينة التي أنزلها الله تباعا على نفسي بفضل دعوات الأحبة.

ساهم الجو العائلي كذلك، وإحاطة أفراد العائلة وأطفالهم بي من كل جانب في مداواة جراحي، كان النظر في عيون أطفالهم دواء من نوع خاص. لم أكن أصدق أمي عندما كانت تقول لي كلما نالت منها الهموم والأحزان، أنها تنسى كل شيء بمجرد النظر إلى وجهي! لم أفهم ما تقوله حينها ولم أع كيف ذلك؟، كيف تكون مهمومة وقلبها غارق في الأحزان، وتنظر إلي فتنسى؟ ماذا على وجهي من أمارات النسيان؟ وما هو النسيان؟ وهل هذا محض كلام يقال؟

كثير من الأسئلة والاستفهامات التي أثارتها في عقلي؛ حتى أدركت فيما بعد معنى أن يُذهب النظر في وجه طفل جميل غيوم الحزن الجاثم على قلب مليء بالهموم والأوجاع، وكيف لابتساماتهم العفوية وضحكاتهم الصادقة أن تنفض غبار الأسى وتُطيب الجراح، وتنثر حبات السرور قطرا على ندوب القلب المكلوم. يا إلهي لم تكن أمي تبالغ، إنها محقة.. الأطفال نعمة عظيمة وهبة كريمة من الله.

كان عزائي الأكبر في مغفرة الله وواسع رحمته، ويقيني أنه سيسكن والدي فسيح جناته ويقبله شهيدا عنده، ويحشره مع زمرة الأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا. إلى جانب الإيمان بالآخرة، وأن الله سيجمعني به مجددا في جناته، وسألقاه في أبهى صورة. لن يكون مريضا طريح الفراش، يصارع المرض كما كان في آخر أيامه. لن تؤلمني رؤيته في تلك الحالة كما كانت، ولن يفتك بي شعور العجز عندما كنت أسمعه يتألم. صحيح أنه لن تفارقني صورته ما حييت وهو ملقى بلا حول ولا قوة في وحدة العناية المركزة يتأوه من الألم، وأنا أقف إلى جانبه عديمة الحيلة، أمسك بيده وأهمس في أذنه.. ربما عندما أراه منعم، مكرم، سليم، معافى، ويأخذني في حضنه، يضمني في شوق وحب في الآخرة، ينسيني هذا تلك المشاهد المريرة. هذه ليست المرة الأخيرة بالتأكيد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.